فصل: باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


  باب في إصلاح اللفظ

اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمة وعليها أدلة وإليها موصلة وعلى المراد منها محصلة عنيت العرب بها فأولتها صدراً صالحاً من تثقيفها وإصلاحها‏.‏

فمن ذلك قولهم‏:‏ أما زيد فمنطلق ألا ترى أن تحرير هذا القول إذا صرحت بلفظ الشرط فيه صرت إلى أنك كأنك قلت‏:‏ مهما يكن من شيء فزيد منطلق قتجد الفاء في جواب الشرط في صدر الجزأين مقدمة عليهما‏.‏

وأنت في قولك‏:‏ أما زيد فمنطلق إنما تجد الفاء واسطة بين الجزأين ولا تقول‏:‏ أما فزيد منطلق كما تقول فيما هو في معناه‏:‏ مهما يكن من شيء فزيد منطلق‏.‏

وإنما فعل ذلك لإصلاح اللفظ‏.‏

ووجه إصلاحه أن هذه الفاء وإن كانت جواباً ولم تكن عاطفة فإنها على مذهب لفظ العاطفة وبصورتها فلو قالوا‏:‏ أما فزيد منطلق كما يقولون‏:‏ مهما يكن من شيء فزيد منطلق لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف بعدها اسم وليس قبلها اسم إنما قبلها في اللفظ حرف وهو أما‏.‏

فتنكبوا ذلك لما ذكرنا ووسطوها بين الحرفين ليكون قبلها اسم وبعدها آخر فتأتي على صورة العاطفة فقالوا‏:‏ أما زيد فمنطلق كما تأتي عاطفة بين الاسمين في نحو قام زيد فعمرو‏.‏

وهذا تفسير أبي علي رحمه الله تعالى‏.‏

وهو الصواب‏.‏

ومثله امتناعهم أن يقولوا‏:‏ انتظرتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس فينصبوه على أنه مفعول معه كما ينصبون نحو قمت وزيداً أي مع زيد‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ وإنما ذلك لأن الواو التي بمعنى مع لا تستعمل إلا في الموضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لجاز‏.‏

ولو قلت‏:‏ انتظرتك وطلوع الشمس أي و ‏"‏ انتظرتك طلوع الشمس ‏"‏ لم يجز‏.‏

أفلا ترى إلى إجرائهم الواو غير العاطفة في هذا مجرى العاطفة فكذلك أيضاً تجري الفاء غير العاطفة في نحو أما زيد فمنطلق مجرى العاطفة فلا يؤتى بعدها بما لا شبيه له في جواز العطف عليه قبلها‏.‏

ومن ذلك قولهم في جمع تمرة وبسرة ونحو ذلك‏:‏ تمرات وبسرات فكرهوا إقرار التاء تناكراً لاجتماع علامتي تأنيث في لفظ اسم واحد فحذفت وهي في النية - مرادة البتة - لا لشيء إلا لإصلاح اللفظ لأنها في المعنى مقدرة منوية لا غير ألا تراك إذا قلت ‏"‏ تمرات ‏"‏ لم يعترض شك في أن الواحدة منها تمرة وهذا واضح‏.‏

‏"‏ والعناية ‏"‏ إذاً في الحذف إنما هي بإصلاح اللفظ إذ المعنى ناطق بالتاء مقتض لها حاكم بموضعها‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ إن زيداً لقائم فهذه لام الابتداء وموضعها أول الجملة وصدرها لا آخرها وعجزها فتقديرها أول‏:‏ لَئنّ زيداً منطلق فلما كره تلاقي حرفين لمعنى واحد - وهو التوكيد - أخرت اللام إلى الخبر فصار إن زيداً لمنطلق‏.‏

فإن قيل‏:‏ هلا أخرت ‏"‏ إن ‏"‏ وقدمت اللام قيل‏:‏ لفساد ذلك من أوجه‏:‏ أحدها أن اللام لو تقدمت وتأخرت ‏"‏ إن ‏"‏ لم يجز أن تنصب ‏"‏ إن ‏"‏ اسمها الذي من عادتها نصبه من قبل أن لام الابتداء إذا لقيت الاسم المبتدأ قوت سببه وحمت من العوامل جانبه فكان يلزمك أن ترفعه فتقول‏:‏ لَزيدٌ إنَّ قائم ولم يكن إلى نصب ‏"‏ زيد ‏"‏ - وفيه لام الابتداء - سبيل‏.‏

ومنها أنك لو تكلفت نصب زيد - وقد أخرت عنه ‏"‏ إن ‏"‏ - لأعملت ‏"‏ إن ‏"‏ فيما قبلها وإن لا تعمل أبداً إلا فيما بعدها‏.‏

ومنها أن ‏"‏ إن ‏"‏ عاملة واللام غير عاملة والمبتدأ لا يكون إلا اسماً وخبره قد يكون جملة وفعلاً وظرفاً وحرفاً فجعلت اللام فيه لأنها غير عاملة ومنعت منه ‏"‏ إن ‏"‏ لأنها لا تعمل في الفعل ولا في الجملة كلها النصب إنما تعمله في أحد جزأيها ولا تعمل أيضاً في الظرف ولا في حرف الجر‏.‏

ويدل على أن موضع اللام في خبر ‏"‏ إن ‏"‏ أول الجملة قبل ‏"‏ إن ‏"‏ أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قبلوا الهمزة هاء ليزول لفظ ‏"‏ إن ‏"‏ فيزول أيضاً ما كان مستكرهاً من ذلك فقالوا ‏"‏ لهِنّك قائم ‏"‏ أي لئنك قائم‏.‏

وعليه قوله - فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس -‏:‏ فإن قلت‏:‏ فما تصنع بقول الآخر‏:‏ ثمانين حولاً لا أرى منك راحة لهنك في الدنيا لباقية العمر وما هاتان اللامان قيل‏:‏ أما الأولى فلام الابتداء على ما تقدم‏.‏

وأما الثانية في قوله‏:‏ ‏"‏ لباقية العمر ‏"‏ فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير ‏{‏إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏ ونحوه ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر‏:‏ ألم تكن حلفت بالله العلي أن مطاياك لمن خير المطي بفتح أن في الآية وفي البيت‏.‏

وروينا عن أحمد بن يحيى - وأنشدناه أبو علي رحمه الله تعالى -‏:‏ مروا عجالاً وقالوا‏:‏ كيف صاحبكم‏!‏ قال الذي سألوا‏:‏ أمسى لمجهودا فزاد اللام‏.‏

وكذلك اللام عندنا في لعل زائدة ألا ترى أن العرب قد تحذفها قال‏:‏ عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها وكذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قول الراجز‏:‏ ثمت يغدو لكأن لم يشعر رخو الإزار زمح التبختر لهنك في الدنيا لباقية العمر زائدة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل‏:‏ يفسد ذلك من جهتين‏:‏ إحداهما أنها قد ثبتت في قوله ‏"‏ لهنك من برق علي كريم ‏"‏ هي لام الابتداء لا زائدة فكذلك ينبغي أن تكون في هذا الموضع أيضاً هي لام الابتداء‏.‏

والأخرى أنك لو جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من ضروب الاتساع فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله ألا تراك لا تزيد ‏"‏ كان ‏"‏ مبتدأة وإنما تزيدها حشواً أو آخراً وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

فأما قول من قال‏:‏ إن قولهم ‏"‏ لهنك ‏"‏ إن أصله ‏"‏ لله إنك ‏"‏ فقد تقدم ذكرنا ذلك مع ما عليه فيه في موضع آخر وعلى أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسف‏.‏

ومن إصلاح اللفظ قولهم‏:‏ كأن زيداً عمرو‏.‏

اعلم أن أصل هذا الكلام‏:‏ زيد كعمرو ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه ‏"‏ إن ‏"‏ فقالوا‏:‏ إن زيداً كعمرو ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه فقدموا حرفه إلى أول الكلام عناية به وإعلاماً أن عقد الكلام عليه فلما تقدمت الكاف وهي جارّة لم يجز أن تباشر ‏"‏ إن ‏"‏ لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل فوجب لذلك فتحها فقالوا‏:‏ كأن ومن ذلك أيضاً قولهم‏:‏ لك مال وعليك دين فالمال والدين هنا مبتدآن وما قبلهما خبر عنهما إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدر لهما لم يجز لقبح الابتداء بالنكرة في الواجب فلما جفا ذلك في اللفظ أخروا المبتدأ وقدموا الخبر وكان ذلك سهلاً عليهم ومصلحاً لما فسد عندهم‏.‏

وإنما كان تأخره مستحسناً من قبل أنه لما تأخر وقع موقع الخبر ومن شرط الخبر أن يكون نكرة فلذلك صلح به اللفظ وإن كنا قد أحطنا علماً بأنه في المعنى مبتدأ‏.‏

فأما من رفع الاسم في نحو هذا بالظرفية فقد كفي مئونة هذا الاعتذار لأنه ليس مبتدأ عنده‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد حكى عن العرب ‏"‏ أمتٌ في حجر لا فيك ‏"‏ وقولهم‏:‏ ‏"‏ شرٌ أهرَّ ذا ناب ‏"‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ عَلَيْكَ‏}‏ قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ونحو ذلك‏.‏

والمبتدأ في جميع هذا نكرة مقدمة‏.‏

قيل‏:‏ أما قوله سلام عليك وويل له وأمت في حجر لا فيك فإنه جاز لأنه ليس في المعنى خبراً إنما هو دعاء ومسألة أي ليسلم الله عليك وليلزمه الويل وليكن الأمت في الحجارة لا فيك‏.‏

والأمت‏:‏ الانخفاض والارتفاع والاختلاف قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا‏}‏ أي اختلافاً‏.‏

ومعناه‏:‏ أبقاك الله بعد فناء الحجارة وهي مما توصف بالخلود والبقاء ألا تراه كيف قال‏:‏ وقال‏:‏ بقاء الوحي في الصم الصلاب وأما قولهم ‏"‏ شر أهر ذا ناب ‏"‏ فإنما جاز الابتداء فيه بالنكرة من حيث كان الكلام عائداً إلى معنى النفي أي ما أهر ذا ناب إلا شر وإنما كان المعنى هذا لأن الخبرية عليه أقوى ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ أهر ذا ناب شر لكنت على طرف من الإخبار غير مؤكد فإذا قلت‏:‏ ما أهر ذا ناب إلا شر كان ذلك أوكد ألا ترى أن قولك‏:‏ ما قام إلا زيد أوكد من قولك‏:‏ قام زيد‏.‏

وإنما احتيج إلى التوكيد في هذا الموضع من حيث كان أمراً عانياً مهماً‏.‏

وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شر فقال‏:‏ شر أهر ذا ناب أي ما أهر ذا ناب إلا شر تعظيماً عند نفسه أو عند مستمعه‏.‏

وليس هذا في نفسه كأن يطرق بابه ضيف أو يلم به مسترشد‏.‏

‏"‏ فلما عناه وأهمه وكد الإخبار عنه ‏"‏ وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب لما دعا إليه‏.‏

ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخراً نحو أرطىً ومعزىً وحبنطىً وسرندىً وزبعرىً وصلخدىً وذلك أنها إذا وقعت طرفاً وقعت موقع حرف متحرك فدل ذلك على قوتها عندهم وإذا وقعت حشواً وقعت موقع الساكن فضعفت لذلك فلم تقو فيعلم بذلك إلحاقها بما هي على سمت متحركه ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية فقلت‏:‏ خاتم ملحق بجعفر لكانت مقابلة لعينه وهي ساكنة فاحتاطوا للفظ بأن قابلوا بالألف فيه الحرف المتحرك ليكون أقوى لها وأدل على شدة تمكنها وليعلم بتنوينها أيضاً وكون ما هي في على وزن أصل من الأصول له أنها للإلحاق به‏.‏

وليست كذلك ألف قبعثرى وضبغطرى لأنها وإن كانت طرفاً ومنونة فإن المثال الذي فيه لا مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به لأنه لا أصل لها سداسياً فإنما ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد في أواخر الكلم ثالث لا للتأنيث ولا للإلحاق‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

ومن ذلك أنهم لما أجمعوا الزيادة في آخر بنات الخمسة - كما زادوا في آخر بنات الأربعة - خصوا بالزيادة فيه الألف استخفافاً لها ورغبة فيها هناك دون أختيها‏:‏ الياء والواو‏.‏

وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت فلما تحملوا الزيادة في آخرها طلبوا أخف الثلاث - وهي الألف - فخصوها بها وجعلوا الواو والياء حشواً في نحو عضرفوط وجعفليق لأنهم لو جاءوا بهما طرفاً وسداسيين مع ثقلهما لظهرت الكلفة في تجشمهما وكدت في احتمال النطق بهما كل ذلك لإصلاح اللفظ‏.‏

ومن ذلك باب الادغام في المتقارب نحو ود في وتد ومن الناس ‏"‏ ميقول ‏"‏ في ‏"‏ من يقول ‏"‏ ومنه ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتصل بها علم الضمير المرفوع نحو ضربت وضربن وضربنا‏.‏

وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل فكره اجتماع الحركات ‏"‏ الذي لا يوجد ‏"‏ في الواحد‏.‏

فأسكنوا اللام إصلاحاً للفظ فقالوا‏:‏ ضربت ودخلنا وخرجتم‏.‏

نعم وقد كان يجتمع فيه أيضاً خمس متحركات نحو‏:‏ خرجتما فالإسكان إذاً أشد وجوباً‏.‏

وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع فتفطن له‏.‏

ومن ذلك أنهم لما أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة ‏"‏ ولم ‏"‏ يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة أصلحوا اللفظ بإدخال ‏"‏ الذي ‏"‏ لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة فقالوا‏:‏ مررت بزيد الذي قام أخوه ونحوه‏.‏

  باب في تلاقي اللغة

هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئاً إلا لأبي علي رحمه الله‏.‏

وذلك أنه كان يقول في باب أجمع وجمعاء وما يتبع ذلك من أكتع وكتعاء وبقيته‏:‏ إن هذا اتفاق وتوارد وقع في اللغة على غير ما كان في وزنه منها‏.‏

قال‏:‏ لأن باب أفعل وفعلاء إنما هو للصفات وجميعها تجيء على هذا الوضع نكرات نحو أحمر وحمراء وأصفر وصفراء وأسود وسوداء وأبلق وبلقاء وأخرق وخرقاء‏.‏

هذا كله صفات نكرات فأما أجمع وجمعاء فاسمان معرفتان وليسا بصفتين فإنما ذلك اتفاق وقع بين هذه الكلم المؤكد بها‏.‏

قال‏:‏ ومثله ليلة طلقة وليال طوالق قال‏:‏ فليس طوالق تكسير طلقة لأن فعلة لا تكسر على فواعل وإنما طوالق جمع طالقة وقعت موقع جمع طلقة‏.‏

وهذا الذي قاله وجه صحيح‏.‏

وأبين منه عندي وأوضح قولهم في العلم‏:‏ سلمان وسلمى فليس سلمان إذاً من سلمى كسكران من سكرى‏.‏

ألا ترى أن فعلان الذي يقاوده فعلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى وخزيان وخزيا وصديان وصديا وليس سلمان ولا سلمى بصفتين ولا نكرتين وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد لجمعهما ولا إيثار لتقاودهما‏.‏

ألا تراك لا تقول‏:‏ هذا رجل سلمان ولا امرأة سلمى كما تقول‏:‏ هذا سكران وهذه سكرى وهذا غضبان وهذه غضبى‏.‏

وكذلك لو جاء في العلم ‏"‏ ليلان ‏"‏ لكان ليلان من ليلى كسلمان من سلمى‏.‏

وكذلك لو وجد في العلم ‏"‏ قحطى ‏"‏ لكان من قحطان كسلمى من سلمان‏.‏

وأقرب إلى ذلك من سلمان وسلمى قولهم في العلم‏:‏ عدوان والعدوى مصدر أعداه الجرب ونحوه‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ ‏"‏ أسعد ‏"‏ لبطن من العرب ليس هذا من سعدى كالأكبر من الكبرى والأصغر من الصغرى‏.‏

وذلك أن هذا إنما هو تقاود الصفة وأنت لا تقول‏:‏ مررت بالمرأة السعدى ولا بالرجل الأسعد‏.‏

فينبغي - على هذا - أن يكون أسعد من سعدى كأسلم من بشرى‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن أسعد تذكير سعدى ولو كان كذلك لكان حرىً أن يجيء به سماع ولم نسمعهم قط وصفوا بسعدى وإنما هذا تلاق وقع بين هذين الحرفين المتفقي اللفظ كما يقع هذان المثالان في المختلفية نحو أسلم وبشرى‏.‏

وكذلك أيهم ويهماء ليسا كأدهم ودهماء لأمرين‏:‏ أحدهما أن الأيهم الجمل الهائج ‏"‏ أو السيل ‏"‏ واليهماء الفلاة فهما مختلفان‏.‏

والآخر أن أيهم لو كان مذكر يهماء لوجب أن يأتي فيهما ‏"‏ يهم ‏"‏ كدهم ولم نسمع ذلك فعلمت بذلك أن هذا تلاق بين اللغة وأن أيهم لا مؤنث له ويهماء لا مذكر لها‏.‏

ومن التلاقي قولهم في العلم‏:‏ أسلم وسلمى‏.‏

وليس هذا كالأكبر والكبرى لأنه ليس وصفاً‏.‏

فتأمل أمثاله في اللغة‏.‏

ومثله شتان وشتى إنما هما كسرعان وسكرى‏.‏

وإنما وضعت من هذا الحديث رسماً لتتنبه على ما يجيء من مثله فتعلم به أنه توارد وتلاق وقع في أثناء هذه اللغة عن غير قصد له ولا مراسلة بين بعضه وبعض‏.‏

وليس من هذا الباب سعد وسعدة من قبل أن هاتين صفتان مسوقتان على منهاج واستمرار‏.‏

فسعد من سعدة كجلد من جلدة وندب من ندبة‏.‏

ألا تراك تقول‏:‏ هذا يوم سعد وهذه ليلة سعدة كما تقول‏:‏ هذا شعر جعد وهذه جمة جعدة‏.‏

فاعرف ذلك إلى ما يليه وقسه بما قررته عليه بإذن الله تعالى‏.‏

  باب في هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو لا

سألت أبا علي رحمه الله عن هذا فقال‏:‏ كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم‏.‏

فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا وما حظرته عليهم حظرته علينا‏.‏

وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا‏.‏

وما بين ذلك بين ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة من حيث كان القوم لا يترسلون في عمل أشعارهم ترسل المولدين ولا يتأنون فيه ولا يتلومون على حوكه وعمله وإنما كان أكثره ارتجالاً قصيداً كان أو رجزاً أو رملاً‏.‏

فضرورتهم إذاً أقوى من ضرورة المحدثين‏.‏

فعلى هذا ينبغي أن يكون عذرهم فيه أوسع وعذر المولدين أضيق‏.‏

قيل‏:‏ يسقط هذا من أوجه‏:‏ أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه والملاطفة له والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو من مما يعرض لكثير من المولدين‏.‏

ألا ترى إلى ما يروى عن زهير‏:‏ من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين فكانت تسمى حوليات زهير لأنه كان يحوك القصيدة في سنة‏.‏

والحكاية في ذلك عن ابن أبي حفصة أنه قال‏:‏ كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر وأحككها في أربعة أشهر وأعرضها في أربعة أشهر ثم أخرج بها إلى الناس‏.‏

فقيل له‏:‏ فهذا هو الحولي المنقح‏.‏

وكذلك الحكاية عن ذي الرمة‏:‏ أنه قال‏:‏ لما قال‏:‏ بيضاء في نعج صفراء في برج أجبل حولاً لا يدري ما يقول إلى أن مرت به صينية فضية قد أشربت ذهباً فقال‏:‏ كأنها فضة قد مسها ذهب وقد وردت أيضاً بذلك أشعارهم قال ذو الرمة‏:‏ أجنبه المساند والمحالا ألا تراه كيف اعترف بتأنيه فيه وصنعته إياه‏.‏

وقال عدي بن الرقاع العاملي‏:‏ وقصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها وقال سويد بن كراع‏:‏ وإنما يبيت عليها لخلوه بها ومراجعته النظر فيها‏.‏

وقال‏:‏ أعددت للحرب التي أعنى بها قوافياً لم أعي باجتلابها حتى إذا أذللت من صعابها واستوسقت لي صحت في أعقابها فهذا - كما ترى - مزاولة ومطالبة واغتصاب لها ومعاناة كلفة بها‏.‏

ومن ذلك الحكاية عن الكميت وقد افتتح قصيدته التي أولها‏:‏ ألا حييت عنا يا مدينا ثم أقام برهة لا يدري بماذا يعجز على هذا الصدر إلى أن دخل حماماً وسمع إنساناً دخله فسلم على آخر فيه فأنكر ذلك عليه فانتصر بعض الحاضرين له فقال‏:‏ وهل بأس بقول المسلّمين فاهتبلها الكميت فقال‏:‏ وهل بأس بقول مسلّمينا ومثل هذا أشعارهم الدالة على الاهتمام بها والتعب في إحكامها كثير معروف‏.‏

فهذا وجه‏.‏

وثان‏:‏ أن من المحدثين أيضاً من يسرع العمل ولا يعتاقه بطء ولا يستوقف فكره ولا يتعتع خاطره‏.‏

فمن ذلك ما حدثني به من شاهد المتنبي وقد حضر عند أبي علي الأوارجي وقد وصف له طرداً كان فيه وأراده على وصفه فأخذ الكاغد والدواة واستند إلى جانب المجلس ومنزل ليس لنا بمنزل وهي طويلة مشهورة في شعره‏.‏

وحضرت أنا مجلساً لبعض الرؤساء ليلة وقد جرى ذكر السرعة وتقدم البديهة وهنالك حدث من غير شعراء بغداد فتكفل أن يعمل في ليلته تلك مائتي بيت في ثلاث قصائد على أوزان اخترناها عليه ومعان حددناها له فلما كان الغد في آخر النهار أنشدنا القصائد الثلاث على الشرط والاقتراح وقد صنعها وظاهر إحكامها وأكثر من البديع المستحسن فيها‏.‏

وثالث‏:‏ كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات كقصر الممدود وصرف ما لا ينصرف وتذكير المؤنث ونحوه‏.‏

وقد حضر ذلك وشاهده جلة أصحابنا من أبي عمرو إلى آخر وقت والشعراء من بشار إلى فلان وفلان ولم نر أحداً من هؤلاء العلماء أنكر على أحد من المولدين ما ورد في شعره من هذه الضرورات التي ذكرناها وما كان نحوها فدل ذلك على رضاهم به وترك تناكرهم إياه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد عيب بعضهم كأبي نواس وغيره في أحرف أخذت عليهم قيل‏:‏ هذا كما عيب الفرزدق وغيره في أشياء استنكرها أصحابنا‏.‏

فإذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولدين أحرى بالجواز‏.‏

فإذا كانوا قد عابوا بعض ما جاء به القدماء في غير الشعر بل في حال السعة وموقف الدعة كان يرد من المولدين في الشعر - وهو موقف فسحة وعذر - أولى بجواز مثله‏.‏

فمن ذلك استنكارهم همز مصائب وقالوا‏:‏ منارة ومنائر ومزادة ومزائد فهمزوا ذلك في الشعر وغيره وعليه قال الطرماح‏:‏ مزائد خرقاء اليدين مسيفة يخب بها مستخلف غير آئن وإنما الصواب مزاود ومصاوب ومناور قال‏:‏ يصاحب الشيطان من يصاحبه فهو أذيٌ جمةٌ مصاوبه ومن ذلك قولهم في غير الضرورة‏:‏ ضبب البلد‏:‏ كثرة ضبابه‏.‏

وألل السقاء‏:‏ تغيرت ريحه‏.‏

ولححت عينه‏:‏ التصقت ومششت الدابة‏.‏

وقالوا‏:‏ إن الفكاهة مقودة إلى الأذى‏.‏

وقرأ بعضهم ‏{‏لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ‏}‏ وقالوا‏:‏ كثرة الشراب مبولة وكثرة الأكل منومة وهذا شيء مطيبة للنفس وهذا طريق مهيع إلى غير ذلك مما جاء في السعة ومع غير الضرورة‏.‏

وإنما صوابه‏:‏ لحت عينه وضب البلد وألَّ السقاء ومشَّت الدابة ومقادة إلى الأذى ومثابة ومبالة ومنامة ومطابة ومهاع‏.‏

فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر فأما ما يأتي عن العرب لحناً فلا نعذر في مثله مولداً‏.‏

فمن ذلك بيت الكتاب‏:‏ وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حي أبوه يقاربه ومراده فيه معروف وهو فيه غير معذور‏.‏

ومثله في الفصل قول الآخر - فيما أنشده ابن الأعرابي -‏:‏ فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفراً رسومها قلما أراد‏:‏ فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومها فأوقع من الفصل والتقديم والتأخير ما تراه‏.‏

وأنشدنا أيضاً‏:‏ فقد والشك بين لي عناءٌ بوشك فراقهم صرد يصيح أراد‏:‏ فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم والشك عناء‏.‏

فقد ترى إلى ما فيه من الفصول التي لا وجه لها ولا لشيء منها‏.‏

وأغرب من ذلك وأفحش وأذهب في القبح قول الآخر‏:‏ لها مقلتا حوراء طل خميلة من الوحش ما تنفك ترعى عرارها أراد‏:‏ لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها‏.‏

فمثل هذا لا نجيزه للعربي أصلاً فضلاً عن أن نتخذه للمولدين رسماً‏.‏

وأما قول الآخر‏:‏ معاوى لم ترع الأمانة فارعها وكن حافظاً لله والدين شاكر فحسن جميل وذلك أن ‏"‏ شاكر ‏"‏ هذه قبيلة وتقديره‏:‏ معاوى لم ترع الأمانة شاكر فارعها أنت وكن حافظاً لله والدين‏.‏

فأكثر ما في هذا الاعتراض بين الفعل والفاعل والاعتراض للتسديد قد جاء بين الفعل والفاعل وبين المبتدأ والخبر وبين الموصول والصلة وغير ذلك مجيئاً كثيراً في القرآن وفصيح الكلام‏.‏

ومثله من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله‏:‏ وقد أدركتني - والحوادث جمة - أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل والاعتراض في ههذ اللغة كثير حسن‏.‏

ونحن نفرد له باباً يلي هذا الباب‏.‏

بإذن الله سبحانه وتعالى‏.‏

ومن طريف الضرورات وغريبها ووحشيها وعجيبها ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر‏:‏ هل تعرف الدار ببيدا إنه دار لخود قد تعفت إنَّه فانهلت العينان تسفحنه مثل الجمان جال في سلكنَّه وهذه الأبيات قد شرحها أبو علي رحمه الله في البغداديات فلا وجه لإعادة ذلك هنا‏.‏

فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها‏.‏

وكذلك ما أنشده أيضاً أبو زيد للزفيان السعدي‏:‏ يا إبلي ما ذامه فتأبَيَه ماء رواء ونصيٌ حولَيَه هذا بأفواهك حتى تأبَيَه حتى تروحي أصلاً تباريه تباري العانة فوق الزازيه هكذا روينا عن أبي زيد وأما الكوفيون فرووه على خلاف هذا يقولون‏:‏ فتأبَيْه ونصي حولَيْه وحتى تأبَيْه وفوق الزازيْه‏.‏

فينشدونه من السريع لا من الرجز كما أنشده أبو زيد‏.‏

وقد ذكرت هذه الأبيات بما يجب فيها في كتابي ‏"‏ في النوادر الممتعة ‏"‏ ومقداره ألف ورقة‏.‏

وفيه من كلتا الروايتين صنعة طريفة‏.‏

وأخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى - أحسبه عن ابن الأعرابي - يقول الشاعر‏:‏ وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم من الناس ذنباً جاءه وهو مسلما وقال في تفسيره معناه‏:‏ ما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم مسلماً ذنباً جاءه وهو ولو وكد الضمير في جاء فقال‏:‏ جاءه هو وهو لكان أحسن‏.‏

وغير التوكيد أيضاً جائز‏.‏

وأبيات الإعراب كثيرة وليس على ذكرها وضعنا هذا الباب‏.‏

ولكن اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران‏:‏ زيغ الإعراب وقبح الزحاف فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة الإعراب‏.‏

كذلك قال أبو عثمان وهو كما ذكر‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فلو قال في قوله‏:‏ ألم يأتيك والأنباء تنمي ‏"‏ ألم يأتك والأنباء تنمي ‏"‏ لكان أقوى قياساً على ما رتبه أبو عثمان ألا ترى أن الجزء كان يصير منقوصا لأنه يرجع إلى مفاعيل‏:‏ ألم يأت مفاعيل‏.‏

وكذلك بيت الأخطل‏:‏ كلمع أيدي مثاكيل مسلبة يندبن ضرس بنات الدهر والخطب أقوى القياسين على ما مضى أن ينشد ‏"‏ مثاكيل ‏"‏ غير مصروف لأنه يصير الجزء فيه من مستفعلن إلى مفتعلن وهو مطوي والذي روى ‏"‏ مثاكيل ‏"‏ بالصرف‏.‏

وكذلك بقية هذا‏.‏

فإن كان ترك زيغ الإعراب يكسر البيت كسراً لا يزاحفه زحافاً فإنه لا بد من ضعف زيغ الإعراب واحتمال ضرورته وذلك كقوله‏:‏ سماء الإله فوق سبع سمائيا فهذا لا بد من التزام ضرورته لأنه لو قال‏:‏ سمايا لصار من الضرب الثاني إلى الثالث وإنما مبنى هذا الشعر على الضرب الثاني لا الثالث‏.‏

وليس كذلك قوله‏:‏ لأنه لو قال‏:‏ معار لما كسر الوزن لأنه يصير من مفاعلتن إلى مفاعيلن وهو العصب‏.‏

لكن مما لا بد من التزام ضرورته مخافة كسر وزنه قول الآخر‏:‏ خريع دوادي في ملعب تأزر طوراً وترخي الإزارا فهذا لا بد من تصحيح معتله ألا ترى أنه لو أعل اللام وحذفها فقال دواد لكسر البيت البتة‏.‏

فاعرف إذاً حال ضعف الإعراب الذي لا بد من التزامه مخافة كسر البيت من الزحاف الذي يرتكبه الجفاة الفصحاء إذا أمنوا كسر البيت ويدعه من حافظ على صحة الوزن من غير زحاف وهو كثير‏.‏

فإن أمنت كسر البيت اجتنبت ضعف الإعراب وإن أشفقت من كسرة ألبتة دخلت تحت كسر الإعراب‏.‏

  باب في الاعتراض

اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام‏.‏

وهو جار عند العرب مجرى التأكيد فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز الفصل فيه بغيره إلا شاذاً أو متأولاً‏.‏

قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ‏}‏ فهذا فيه اعتراضان‏:‏ أحدهما قوله ‏{‏وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ‏}‏ لأنه اعترض به بين القسم الذي هو قوله ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏}‏ وبين جوابه الذي هو قوله ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ‏}‏ وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو ‏"‏ قسم ‏"‏ وبين صفته التي هي ‏"‏ عظيم ‏"‏ وهو قوله ‏"‏ لو تعلمون ‏"‏‏.‏

فذانك اعتراضان كما ترى‏.‏

ولو جاء الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون‏:‏ فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم ‏{‏لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

ومن ذلك قول امريء القيس‏:‏ ألا هل أتاها - والحوادث جمةٌ - بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ألا هل أتاها والحوادث كالحصى وأنشدنا أبو علي‏:‏ وقد أدركتني - والحوادث جمة - أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل فهذا كله اعتراض بين الفعل وفاعله‏.‏

وأنشدنا أيضاً‏:‏ ذاك الذي - وأبيك - تعرف مالك والحق يدفع ترهات الباطل فقوله‏:‏ ‏"‏ وأبيك ‏"‏ اعتراض بين الموصول والصلة‏.‏

وروينا لعبيد الله بن الحر‏:‏ تعلم ولو كاتمته الناس أنني عليك - ولم أظلم - بذلك عاتب فقوله‏:‏ ‏"‏ ولو كاتمته الناس ‏"‏ اعتراض بين الفعل ومفعوله وقوله‏:‏ ‏"‏ ولم أظلم بذلك ‏"‏ اعتراض بين اسم أن وخبرها‏.‏

ومن ذلك قول أبي النجم - أنشدناه -‏:‏ وبدلت - والدهر ذو تبدل - هيفاً دبوراً بالصبا والشمأل فقوله‏:‏ ‏"‏ والدهر ذو تبدل ‏"‏ اعتراض بين المفعول الأول والثاني‏.‏

ومن الاعتراض قوله‏:‏ ألم يأتك - والأنباء تنمي - بما لاقت لبون بني زياد فقوله‏:‏ ‏"‏ والأنباء تنمي ‏"‏ اعتراض بين الفعل وفاعله‏.‏

وهذا أحسن مأخذاً في الشعر من أن يكون في ‏"‏ يأتيك ‏"‏ ضمير من متقدم مذكور‏.‏

فأما ما أنشده أبو علي من قول الشاعر‏:‏ أتنسى - لا هداك الله - ليلى وعهد شبابها الحسن الجميل‏!‏ كأن - وقد أتى حول جديد - أثافيها حمامات مثول فإنه لا اعتراض فيه‏.‏

وذلك أن الاعتراض لا موضع له من الإعراب ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض على ما تقدم‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏"‏ وقد أتى حول جديد ‏"‏ فذو موضع من الإعراب وموضعه النصب بما في ‏"‏ كأن ‏"‏ من معنى التشبيه ألا ترى أن معناه‏:‏ أشبهت وقد أتى حول جديد حمامات مثولاً أو أشبهها وقد مضى حول جديد بحمامات مثول أي أشبهها في هذا الوقت وعلى هذه الحال بكذا‏.‏

وأنشدنا‏:‏ أراني - ولا كفران لله أية لنفسي - لقد طالبت غير منيل ففي هذا اعتراضان‏:‏ أحدهما - ‏"‏ ولا كفران لله ‏"‏‏.‏

والآخر - قوله‏:‏ ‏"‏ أية ‏"‏ أي أوَيت لنفسي أيَّة معناه رحمتها ورققت لها‏.‏

فقوله‏:‏ أويت لها لا موضع له من الإعراب‏.‏

وسألنا الشجري أبا عبد الله يوماً عن فرس كانت له فقال‏:‏ هي بالبادية‏.‏

قلنا لم قال‏:‏ إنها وجية فأنا آوي لها أي أرحمها وأرق لها‏.‏

وكذلك قول الآخر‏:‏ أراني ولا كفران لله إنما أواخي من الأقوام كل بخيل ومن الاعتراض قولهم‏:‏ زيد - ولا أقول إلا حقاً - كريم‏.‏

وعلى ذلك مسئلة الكتاب‏:‏ إنه - المسكين - أحمق ألا ترى أن تقديره‏:‏ إنه أحمق وقوله ‏"‏ المسكين ‏"‏ أي هو المسكين وذلك اعتراض بين اسم إن وخبرها‏.‏

ومن ذلك مسئلته‏:‏ ‏"‏ لا أخا - فاعلم - لك ‏"‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏ فاعلم ‏"‏ اعتراض بين المضاف والمضاف إليه كذا الظاهر‏.‏

وأجاز أبو علي رحمه الله أن يكون ‏"‏ لك ‏"‏ خبراً ويكون ‏"‏ أخا ‏"‏ اسماً مقصوراً تاماً غير مضاف كقولك‏:‏ لا عصا لك‏.‏

ويدل على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة فهو إذاً فعل وذلك قولهم‏:‏ أخ وآخاء فيما حكاه يونس‏.‏

وقال بعض آل المهلب‏:‏ وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم وأي بني الآخاء تنبو مناسبه‏!‏ فغير منكر أن يخرج واحدها أصله كما خرج واحد الآباء على أصله وذلك قولهم‏:‏ هذا أباً ورأيت أباً ومررت بأباً‏.‏

وروينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال‏:‏ يقال هذا أبوك وهذا أباك وهذا أبُك فمن قال‏:‏ هذا أبوك أو أباك فتثنيته أبوان ومن قال هذا أبك فتثنيته أبان وأبوان‏.‏

وأنشد‏:‏ سوى أبك الأدنى وإن محمداً على كل عال يابن عم محمد وأنشد أبو علي عن أبي الحسن‏:‏ تقول ابنتي لما رأتني شاحباً كأنك فينا يا أبات غريب قال‏:‏ فهذا تأنيث أبا وإذا كان كذلك جاز جوازاً حسناً أن يكون قولهم‏:‏ لا أبا لك ‏"‏ أبا ‏"‏ منه اسم مقصور كما كان ذلك في ‏"‏ أخالك ‏"‏ ويحسنه أنك إذا حملت الكلام عليه جعلت له خبراً ولم يكن في الكلام فصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر غير أنه يؤنس بمعنى إرادة الإضافة قول الفرزدق‏:‏ ظلمت ولكن لا يدى لك بالظلم فلهذا جوزناها جميعاً‏.‏

وروينا لمعن بن أوس‏:‏ وفيهن - والأيام يعثرن بالفتى - نوادب لا يمللنه ونوائح ففصل بقوله‏:‏ ‏"‏ والأيام يعثرن بالفتى ‏"‏ بين المبتدأ وخبره‏.‏

وأنشدنا‏:‏ وسألته عن بيت كثير‏:‏ وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت فأجاز أن يكون قوله‏:‏ ‏"‏ وتهيامي بعزة ‏"‏ جملة من مبتدأ وخبر اعترض بها بين اسم إن وخبرها الذي هو قوله‏:‏ لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت فقلت له‏:‏ أيجوز أن يكون ‏"‏ وتهيامي ‏"‏ بعزة قسماً فأجاز ذلك ولم يدفعه‏.‏

وقال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ هذا فليذوقوه حميم وغساق ‏"‏‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فليذوقوه ‏"‏ اعتراض بين المبتدأ وخبره‏.‏

وقال رؤبة‏:‏ إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصرٌ نصرا فاعترض بالقسم بين اسم إن وخبرها‏.‏

والاعتراض في شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه وامتداد نفسه وقد رأيته في أشعار المحدثين وهو في شعر إبراهيم بن المهدي أكثر منه في شعر غيره من المولدين‏.‏

  باب في التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين

هذا في كلام العرب كثير فاش والقياس له قابل مسوغ‏.‏

فمن ذلك قولهم‏:‏ مررت بزيد وما كان نحوه مما يلحق من حروف الجر معونة لتعدي الفعل‏.‏

فمن وجه يعتقد في الباء أنها بعض الفعل من حيث كانت معدية وموصلة له‏.‏

كما أن همزة النقل في ‏"‏ أفعلت ‏"‏ وتكرير العين في ‏"‏ فعلت ‏"‏ يأتيان لنقل الفعل وتعديته نحو قام وأقمته وقومته وسار وأسرته وسيرته‏.‏

فلما كان حرف الجر الموصل للفعل معاقباً لأحد شيئين كل واحد منهما مصوغ في نفس المثال جرى مجراهما في كونه جزءاً من الفعل أو كالجزء منه‏.‏

فهذا وجه اعتداده كبعض الفعل‏.‏

وأما وجه اعتداده كجزء من الاسم فمن حيث كان مع ما جره في موضع نصب وهذا يقضي له بكونه جزءاً مما بعده أو كالجزء منه ألا تراك تعطف على مجموعهما بالنصب كما تعطف على الجزء الواحد في نحو قولك‏:‏ ضربت زيداً وعمراً وذلك قولك‏:‏ مررت بزيد وعمراً ورغبت فيك وجعفراً ونظرت إليك وسعيداً أفلا ترى إلى حرف الجر الموصل للفعل كيف ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين متفقين وذلك كأن تروم أن تدل على قوة اتصال حرف الجر بالفعل فتعتده تارة كالبعض له والأخرى كالبعض للاسم‏.‏

فهذا ما لا يجوز مثله لأنه لا يكون كونه كبعض الاسم دليلاً على شدة امتزاجه بالفعل لكن لما اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران فاعرف ذلك فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه‏.‏

ومثل ذلك قولهم‏:‏ ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ فههنا تقديران مختلفان لمعنيين مختلفين‏.‏

وذلك أن ثبات الألف في ‏"‏ أبا ‏"‏ من ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ دليل الإضافة فهذا وجه‏.‏

ووجه آخر أن ثبات اللام وعمل ‏"‏ لا ‏"‏ في هذا الاسم يوجب التنكير والفصل‏.‏

فثبات الألف دليل الإضافة والتعريف ووجود اللام دليل الفصل والتنكير‏.‏

وليس هذا في الفساد والاستحالة بمنزلة فساد تحقير مثال الكثرة الذي جاء فساده من قبل تدافع حاليه‏.‏

وذلك أن وجود ياء التحقير يقتضي كونه دليلاً على القلة وكونه مثالاً موضوعاً للكثرة دليل على الكثرة وهذا يجب منه أن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً‏.‏

وهذا ما لا يجوز لأحد اعتقاده‏.‏

وليس كذلك تقديرك الباء في نحو‏:‏ مررت بزيد تارة كبعض الاسم وأخرى كبعض الفعل من قبل أن هذه إنما هي صناعة لفظية يسوغ معها تنقل الحال وتغيرها فأما المعاني فأمر ضيق ومذهب مستصعب ألا تراك إذا سئلت عن زيد من قولنا‏:‏ قام زيد سميته فاعلاً وإن سئلت عن زيد من قولنا‏:‏ زيد قام سميته مبتدأ لا فاعلاً وإن كان فاعلاً في المعنى‏.‏

وذلك أنك سلكت طريق صنعة اللفظ فاختلفت السمة فأما المعنى فواحد‏.‏

فقد ترى إلى سعة طريق اللفظ وضيق طريق المعنى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فأنت إذا قلت في ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ إن الألف تؤذن بالإضافة والتعريف واللام تؤذن بالفصل والتنكير فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين ضدين وهما التعريف والتنكير وهذان - كما ترى - متدافعان‏.‏

قيل‏:‏ الفرق بين الموضعين واضح وذلك أن قولهم‏:‏ ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ كلام جرى مجرى المثل وذلك أنك إذا قلت هذا فإنك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء أي أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أبيه‏.‏

كذا فسره أبو علي وكذلك هو لمتأمله ألاترى أنه قد أنشد توكيداً لما رآه من هذا المعنى فيه قوله‏:‏ وتترك أخرى فردة لا أخا لها ولم يقل‏:‏ لا أخت لها ولكن لما جرى هذا الكلام على أفواههم ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ ‏"‏ ولا أخا لك ‏"‏ قيل مع المؤنث على حد ما يكون عليه مع المذكر فجرى هذا نحواً من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى واثنين وجماعة ‏"‏ الصيف ضيعت اللبن ‏"‏ على التأنيث لأنه كذا جرى أوله وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولهم ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ إنما فيه تعادي ظاهره ‏"‏ واجتماع ‏"‏ صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظاً لا معنى‏.‏

وإذا آل الأمر إلى ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه من تنافر قضيتي اللفظ في نحو‏:‏ مررت بزيد وإذا أردت بذلك أن تدل على شدة اتصال حرف الجر بالفعل وحده دون الاسم ونحن إنما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً‏.‏

وهذا ما لايدعيه مدع ولا يرضاه - مذهباً لنفسه - راض‏.‏

ويؤكد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل كثرته في الشعر وأنه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب‏.‏

فهذا الكلام دعاء في المعنى لا محالة وإن كان في اللفظ خبراً‏.‏

ولو كان دعاء مصرحاً وأمراً معنياً لما جاز أن يقال لمن لا أب له لأنه إذا كان لا أب له لم يجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة ألا ترى أنك لا تقول للأعمى‏:‏ أعماه الله ولا للفقير‏:‏ أفقره الله وهذا ظاهر باد‏.‏

وقد مر به الطائي الكبير فقال‏:‏ نعمة الله فيك لا أسال الل ه إليها نعمى سوى أن تدوما ولو اني فعلت كنت كمن يس أله وهو قائم أن يقوما فكما لا تقول لمن لا أب له‏:‏ أفقدك الله أباك كذلك يعلم أن قولهم لمن لا أب له‏:‏ ‏"‏ لا أبا لك ‏"‏ لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنما هي خارجة مخرج المثل على ما فسره أبو علي‏.‏

قال عنترة‏:‏ فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وقال‏:‏ ألق الصحيفة لا أبا لك إنه يخشى عليك من الحباء النقرس وقال‏:‏ أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباك تخوفيني أراد‏:‏ لا أبا لك فحذف اللام من جاري عرف الكلام‏.‏

وقال جرير‏:‏ يا تيم تيم عدي لا أبا لكم لا يلقينكم في سوأة عمر وهذا أقوى دليل على كون هذا القول مثلاً لا حقيقة ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أب واحد ولكن معناه‏:‏ كلكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له‏.‏

وقال الحطيئة‏:‏ أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا فإن قلت‏:‏ فقد أثبت الحطيئة في هذا البيت ما نفيته أنت في البيت الذي قبله وذلك أنه قال ‏"‏ لأبيكم ‏"‏ فجعل للجماعة أباً واحداً وأنت قلت هناك‏:‏ إنه لا يكون لجماعة تيم أب واحد فالجواب عن هذا من موضعين‏:‏ أحدهما ما قدمناه من أنه لا يريد حقيقة الأب وإنما غرضه الدعاء مرسلاً ففحش بذكر الأب على ما مضى‏.‏

والآخر أنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله ‏"‏ لأبيكم ‏"‏ الجمع أي لا أبا لآبائكم‏.‏

يريد الدعاء على آبائهم من حيث ذكرها فجاء به جمعاً مصححاً على قولك‏:‏ أب وأبون وأبين قال‏:‏ فلما تبيَّنَّ أصواتنا بكين وفدَّيننا بالأبينا وعليه قول الآخر - أنشدناه -‏:‏ فمن يك سائلاً عني فإني بمكة مولدي وبها ربيت وقد شنئت بها الآباء قبلي فما شنئت أبي ولا شنيت أي ما شنئت آبائي‏.‏

فهذا شيء عرض ولنعد‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ مختار ومعتاد ونحو ذلك فهذا يحمل تقديرين مختلفين لمعنيين مختلفين‏.‏

وذلك أنه إن كان اسم الفاعل فأصله مختير ومعتوِد كمقتطع بكسر العين‏.‏

وإن كان مفعولاً فأصله مختيَر ومعتوَد كمقتطَع‏.‏

ف ‏"‏ مختار ‏"‏ من قولك‏:‏ أنت مختار للثياب أي مستجيد لها أصله مختير‏.‏

ومختار من قولك‏:‏ هذا ثوب مختار أصله مختير‏.‏

فهذان تقديران مختلفان لمعنيين‏.‏

وإنما كان يكون هذا منكراً لو كان تقدير فتح العين وكسرها لمعنى واحد فأما وهما لمعنيين فسائغ حسن‏.‏

وكذلك ما كان من المضعف في هذا الشرج من الكلام نحو قولك‏:‏ هذا رجل معتد للمجد ونحوه فهذا هو اسم الفاعل وأصله معتدد بكسر العين وهذا رجل معتد أي منظور إليه فهذا مفتعل بفتح العين وأصله معتدد كقولك‏:‏ هذا معنىً معنىٌ معتبر أي ليس بصغير متحقر‏.‏

وكذلك هذا جوز معتد فهذا أيضاً اسم المفعول وأصله معتدد كمقتسم ومقتطع‏.‏

ونظائر هذا وما قبله كثيرة فاشية‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ كساء وقضاء ونحوه أعللت اللام لأنك لم تعتد بالألف حاجزاً لسكونها وقلبتها أيضاً لسكونها وسكون الألف قبلها فاعتددتها من وجه ولم تعتددها من آخر‏.‏

ومن ذلك أيضاً قولهم‏:‏ أيهم تضرب يقم زيد‏.‏

ف ‏"‏ أيهم ‏"‏ من حيث كانت جازمة ل ‏"‏ تضرب ‏"‏ يجب أن تكون مقدمة عليها ومن حيث كانت منصوبة ب ‏"‏ تضرب ‏"‏ يجب أن تكون في الرتبة مؤخرة عنها فلم يمتنع أن يقع هذان التقديران على اختلافهما من حيث كان هذا إنما هو عمل صناعي لفظي‏.‏

لو كان التعادي والتخالف في المعنى لفسد ‏"‏ ولم ‏"‏ يجز‏.‏

وأيضاً فإن حقيقة الجزم إنما هو لحرف الجزاء المقدر المراد لا ل ‏"‏ أي ‏"‏ ‏"‏ فإذا ‏"‏ كان كذلك كان الأمر أقرب مأخذاً وألين ملمساً‏.‏

  باب في تدريج اللغة

وذلك أن يشبه شيء شيئاً من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره‏.‏

فمن ذلك قولهم‏:‏ جالس الحسن أو ابن سيرين ‏"‏ ولو ‏"‏ جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً وإن كانت ‏"‏ أو ‏"‏ إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين‏.‏

وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس ‏"‏ أو ‏"‏ بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى ‏"‏ أو ‏"‏‏.‏

وذلك لإنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسه في ذلك من الحظ وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً وكأنه قال‏:‏ جالس هذا الضرب من الناس‏.‏

وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه ‏{‏وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا‏}‏ وكأنه - والله أعلم - قال‏:‏ لا تطع هذا الضرب من الناس‏.‏

ثم إنه لما رأى ‏"‏ أو ‏"‏ في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال ‏"‏ أو ‏"‏ في معنى الواو ألا تراه كيف قال‏:‏ وسواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو‏.‏

وعليه قول الآخر‏:‏ فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله وقد يقبل الضيم الذليل المسير أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله كما أن معنى الأول‏:‏ فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها‏.‏

وهذا واضح‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ صبية وصبيان قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير - لأنه من صبوت - لانكسار الصاد قبلها وضعف الباء أن تعتد حاجزاً لسكونها‏.‏

وقد ذكرنا ذلك‏.‏

فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة وذلك قولهم أيضاً‏:‏ صبيان وصبية ‏"‏ وقد ‏"‏ كان يجب - لما زالت الكسرة - أن تعود الياء واواً إلى أصلها لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى صارت كأنها كانت أصلاً‏.‏

وحسن ذلك لهم شيء آخر وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحساناً وإيثاراً لا عن وجوب علة ولا قوة قياس فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قوياً ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثراً‏.‏

ومن ذلك قولهم في الاستثبات عمن قال ضربت رجلاً‏:‏ منا ومررت برجل مني وعندي رجل‏:‏ منو فلما شاع هذا ونحوه عنهم تدرجوا منه إلى أن قالوا‏:‏ ضرب منٌ منا كقولك‏:‏ ومن ذلك قولهم‏:‏ أبيض لياح وهو من الواو لأنه ببياضه ما يلوح للناظر‏.‏

فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وليس ذلك عن قوة علة إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب وهو التطرق إليها بالكسرة طلباً للاستخفاف لا عن وجوب قياس ألا ترى أن هذا الضرب من الأسماء التي ليست جمعاً كرباض وحياض ولا مصدراً جارياً على فعل معتل كقيام وصيام إنما يأتي مصححاً نحو‏:‏ خوان وصوان غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم في لياح في قلبهم إياه إلى الياء بتلك الكسرة قبلها وإن كانت ليس مما يؤثر حقيقة التأثير مثلها ولأنهم شبهوه لفظاً إما بالمصدر كحيال وصيال وإما بالجمع كسوط وسياط ونوط ونياط‏.‏

نعم وقد فعلوا مثل هذا سواء في موضع آخر‏.‏

وذلك قول بعضهم في صوان‏:‏ صيان وفي صوار‏:‏ صيار فلما ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ثم أقروا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها وذلك قولهم فيه‏:‏ لياح‏.‏

وشجعه على ذلك شيئاً أن قلب الواو ياء في لياح لم يكن عن قوة ولا استحكام علة وإنما هو لإيثار الأخف على الأثقل فاستمر على ذلك وتدرج منه إلى أن أقر الياء بحالها مع الفتح إذ كان قلبها مع الكسر أيضاً ليس بحقيقة موجب‏.‏

قال‏:‏ وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحة عمل وإنما هو لتخفيف مؤثر فكذلك أقلب أيضاً مع الفتح وإن لم يكن موجباً غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح فلذلك جعلنا ذاك تدرجاً عنه إليه ولم نسو بينهما فيه‏.‏

فاعرف ذلك‏.‏

وقريب من ذلك قول الشاعر‏:‏ ولقد رأيتك بالقوادم مرة وعلي من سدف العشي رياح قياسه رواح لأنه فعال من راح يروح لكنه لما كثر قلب هذه الواو في تصريف هذه الكلمة ياء - نحو ريح ورياح ومريح ومستريح - وكانت الياء أيضاً عليهم أخف وإليهم أحب تدرجوا من ذلك إلى أن قلبوها في رياح وإن زالت الكسرة التي كانت قلبتها في تلك الأماكن‏.‏

ومن ذلك قلبهم الذال دالاً في ‏"‏ ادكر ‏"‏ وما تصرف منه نحو يدكر ومدكر وادكار وغير ذلك‏:‏ تدرجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير بناء افتعل فقال ابن مقبل‏:‏ من بعض ما يعتري قلبي من الدكر ومن ذلك قولهم‏:‏ الطنة - بالطاء - في الظنة وذلك في اعتيادهم اطن ومطن واطنان كما جاءت الدكر على الأكثر‏.‏

ومن ذلك حذفهم الفاء - على القياس - من ضغة وقحة كما حذفت من عدة وزنة ثم إنهم عدلوا بها عن فِعلة إلى فَعلة فأقروا الحذف بحاله وإن زالت الكسرة التي كانت موجبة له فقالوا‏:‏ الضعة والقحة فتدرجوا بالضعة والقحة إلى الضعة والقحة وهي عندنا فعلة كقصعة وجفنة ‏"‏ لا أن ‏"‏ فتحت لأجل الحرف الحلقي فيما ذهب إليه محمد بن يزيد‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ بأيهم تمرر أمرر فقدموا حرف الجر على الشرط فأعملوه فيه وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله لكنهم لما لم يجدوا طريقاً إلى تعليق حرف الجر استجازوا إعماله في الشرط‏.‏

فلما ساغ لهم ذلك تدرجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا‏:‏ غلام من تضرب أضربه وجارية من تلق ألقها‏.‏

فالاسم في هذا إنما جاز عمله في الشرط من حيث كان محمولاً في ذلك على حرف الجر‏.‏

وجميع هذا حكمه في الاستفهام حكمه في الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام كما أن الشرط كذلك‏.‏

فعلى هذه جاز بأيهم تمر وغلام من تضرب فأما قولهم‏:‏ أتذكر إذ من يأتنا نأته فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ أي أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته فلما باشر المضاف غير المضاف إليه في اللفظ أشبه الفصل بين المضاف والمضاف إليه فلذلك أجازوه في الضرورة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الذي يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر قيل‏:‏ لأن الشرط له صدر الكلام فلو أضفت إليه لعلقته بما قبله وتانك حالتان متدافعتان‏.‏

فأما بأيهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجر متعلق بالفعل بعد الاسم والظرف في قولك‏:‏ أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلق بقولك أتذكر وإذا خرج ما يتعلق به حرف الجر من حيز الاستفهام لم يعمل في الاسم المستفهم به ولا المشروط به‏.‏

ومن التدريج في اللغة أن يكتسي المضاف من المضاف إليه كثيراً من أحكامه‏:‏ من التعريف والتنكير والاستفهام والشياع وغيره ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء في الواجب إذا أضيف إليه شيء منها صار في ذلك إلى حكمه‏.‏

وذلك قولك‏:‏ ما قرعت حلقة باب دار أحد قط فسرى ما في ‏"‏ أحد ‏"‏ من العموم والشياع إلى ‏"‏ الحلقة ‏"‏‏.‏

ولو قلت‏:‏ قرعت حلقة باب دار أحد أو نحو ذلك لم يجز‏.‏

ومن التدريج في اللغة‏:‏ إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفي العلة عينا مجرى الهمزة الأصلية‏.‏

وذلك نحو قولهم في تحقير قائم وبائع‏:‏ قويئم وبويئع فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصلية في سائل وثائر من سأل وثأر إذا قلت‏:‏ سويئل وثويئر‏.‏

وليست كذلك اللام إذا انقلبت همزة عن أحد الحرفين نحو كساء وقضاء ألا تراك تقول في التحقير‏:‏ كسيٌ وقضيّ فترد حرف العلة وتحذفه لاجتماع الياءات‏.‏

وليست كذلك الهمزة الأصلية ألا تراك تقول في تحقير سلاء وخلاء بإقرار الهمزة لكونها أصلية وذلك سُليِّء وخُليِّء‏.‏

وتقول أيضاً في تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتة وذلك قولك‏:‏ أكسية وأقضية‏.‏

وتقول في سلاء وخلاء‏:‏ أسلئة وأخلئة فاعرف ذلك‏.‏

لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئاً مرتجلاً أعدت الحرفين البتة‏.‏

وذلك كأن تبني منهما مثل جعفر فتقول‏:‏ قومم وبيعع‏.‏

ولم تقل‏:‏ قأمم ولا بأعع لأنك إنما تبني من أصل المثال لا من حروفه المغيرة ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال ‏"‏ فعل ‏"‏ لقلت‏:‏ دوم وقول لا غير‏.‏

فإن قلت‏:‏ ولم لم تقرر الهمزة في قائم وبائع فيما تبنيه منهما كما أقررتها في تحقيرهما قيل‏:‏ البناء من الشيء أن تعمد لأصوله فتصوغ منها زوائده فلا تحفل بها‏.‏

وليس كذلك التحقير‏.‏

وذلك أن صورة المحقر معك ومعنى التكبير والتحقير في أن كل واحد منهما واحد واحد وإنما بينهما أن أحدهما كبير والآخر صغير فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه‏.‏

قال أبو علي - رحمه الله - في ضحة الواو في نحو أسيود وجديول‏:‏ مما أعان على ذلك وسوغه أنه في معنى جدول صغير فكما تصح الواو في جدول صغير فكذلك أنس بصحة الواو في جديول‏.‏

وليس كذلك الجمع لأنه رتبة غير رتبة الآحاد فهو شيء آخر فلذلك سقطت في الجمع حرمة الواحد ألا تراك تقول في تكسير قائم‏:‏ قوام وقوم فتطرح الهمزة وتراجع لفظ وسألت مرة أبا علي - رحمه الله - عن رد سيبويه كثيراً من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إياها عليها ألا تراه قال تقول‏:‏ سريحين لقولك‏:‏ سراحين ولا تقول‏:‏ عثيمين لأنك لا تقول‏:‏ عثامين ونحو ذلك‏.‏

فقال‏:‏ إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيداً عن رتبة الآحاد‏.‏

فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه والمحقر هو المكبر والتحقير فيه جار مجرى الصفة فكأن لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد‏:‏ هذا معقد معناه وما أحسنه وأعلاه‏!‏ ومن التدريج قولهم‏:‏ هذا حضرُموت بالإضافة على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه‏.‏

ثم تدرجوا من هذا إلى التركيب فقالوا‏:‏ هذا حضرَموت‏.‏

ثم تدرجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعاً صياغة المفرد فقالوا‏:‏ هذا حضرَمُوت فجرى لذلك مجرى عضرفوط ويستعور‏.‏

ومن التدريج في اللغة قولهم‏:‏ ديمة وديم واستمرار القلب في العين للكسرة قبلها ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا‏:‏ ديمت السماء ودومت فأما دومت فعلى القياس وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم‏.‏

أنشد أبو زيد‏:‏ هو الجواد ابن الجواد ابن سبل إن دوموا جاد وإن جادوا وبل ورواه أيضاً ‏"‏ ديموا ‏"‏ بالياء‏.‏

نعم ثم قالوا‏:‏ دامت السماء تديم فظاهر هذا أنه أجري مجرى باع يبيع وإن كان من الواو‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلعله فعل يفعل من الواو كما ذهب الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه قيل‏:‏ حمله على الإبدال أقوى ألا ترى أنه قد حكي في مصدره ديماً فهذا مجتذب إلى الياء مدرج إليها مأخوذ به نحوها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلعل الياء لغة في هذا الأصل كالواو بمنزلة ضاره يضيره ضيراً وضاره يضوره ضوراً‏.‏

قيل‏:‏ يبعد ذلك هنا ألا ترى إلى اجتماع الكافة على قولهم‏:‏ الدوام وليس أحد يقول‏:‏ الديام فعلمت بذلك أن العارض في هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة لا من جهة اللغة‏.‏

ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم‏:‏ ‏"‏ ما هت الركية تميه ميهاً ‏"‏ مع إجماعهم على أمواه وأنه لا أحد يقول‏:‏ أمياه‏.‏

ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال في جمع ريح‏:‏ أرياح حتى نبه عليه فعاد إلى أرواح‏.‏

وكأن أرياحاً أسهل قليلاً لأنه قد جاء عنهم قوله‏:‏ وعلي من سدف العشي رياح فهو بالياء لهذا آنس‏.‏

وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها فهم لا يزالون تسبباً إليها ونجشاً عنها واستثارة لها وتقرباً ما استطاعوا منها‏.‏

ونحو هذه الطريق في التدريج‏:‏ حملهم علباوان على حمراوان ثم حملهم رداوان على علباوان ثم حملهم قراوان على رداوان وقد تقدم ذكره‏.‏

وفي هذا كاف مما يرد في معناه بإذن الله تعالى‏.‏

ومن ذلك أنه لما اطردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو‏:‏ قمت يوم قمت وأجلس حين تجلس شبهوا ظرف المكان في ‏"‏ حيث ‏"‏ فتدرجوا من ‏"‏ حين ‏"‏ إلى ‏"‏ حيث ‏"‏ فقالوا‏:‏ قمت حيث قمت‏.‏

ونظائره كثيرة‏.‏

  باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب

هذا موضع شريف‏.‏ وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه‏.‏ والمنفعة به عامة والتساند إليه مقو مجد‏.‏ وقد نص أبو عثمان عليه فقال‏:‏ ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره‏.‏

فإذا سمعت ‏"‏ قام زيد ‏"‏ أجزت ظرف بشر وكرم خالد‏.‏ قال أبو علي‏:‏ إذا قلت‏:‏ ‏"‏ طاب الخشكنان ‏"‏ فهذا من كلام العرب لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب‏.‏

ويؤكد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها ألا تراهم يصرفون في العلم نحو آجر وإبريسيم وفِرِند وفيروزج وجميع ما تدخله لام التعريف‏.‏

وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الديباج والفرند والسهريز والآجر أشبه أصول كلام العرب أعني النكرات‏.‏

فجرى في الصرف ومنعه مجراها‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة كما تشتق من أصول كلامها هل ينجيني حلف سختيت أو فضة أو ذهب كبريت قال‏:‏ ف ‏"‏ سختيت ‏"‏ من السخت ك ‏"‏ زحليل ‏"‏ من الزحل‏.‏

وحكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي أظنه قال‏:‏ يقال درهمت الخبازى أي صارت كالدراهم فاشتق من الدرهم وهو اسم أعجمي‏.‏

وحكى أبو زيد‏:‏ رجل مدرهم‏.‏

قال ولم يقولوا منه‏:‏ دُرهِم إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل في الكف‏.‏

ولهذا أشباه‏.‏

وقال أبو عثمان في الإلحاق المطرد‏:‏ إن موضعه من جهة اللام نحو قُعدُد ورِمدِد وشَملَل وصَعرَر‏.‏

وجعل الإلحاق بغير اللام شاذاً لا يقاس عليه‏.‏

وذلك نحو جوهر وبيطر وجدول وحذيم ورهوك وأرطىً ومعزىً وسلقىً وجعبى‏.‏

قال أبو علي وقت القراءة عليه كتاب أبي عثمان‏:‏ لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبنى بإلحاق اللام اسماً وفعلاً وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب‏.‏

وذلك نحو قولك‏:‏ خرججٌ أكرم من دخللٍ وضربب زيد عمراً ومررت برجل ضرببٍ وكرممٍ ونحو ذلك‏.‏

قلت له‏:‏ أفترتجل اللغة ارتجالاً قال‏:‏ ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم فهو إذاً من كلامهم‏.‏

قال‏:‏ ألا ترى أنك تقول‏:‏ طاب الخشكنان فتجعله من كلام العرب وإن لم تكن العرب تكلمت به‏.‏

هكذا قال فبرفعك إياه كرفعها ما صار لذلك محمولاً على كلامها ومنسوباً إلى لغتها‏.‏

هل تعرف الدار لأم الخزرج منها فظلت اليوم كالمزرج أي الذي شرب الزرجون وهي الخمر‏.‏

فاشتق المزرج من الزرجون وكان قياسه‏:‏ كالمزرجن من حيث كانت النون في زرجون قياسها أن تكون أصلاً إذ كانت بمنزلة السين من قربوس‏.‏

قال أبو علي‏:‏ ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه‏.‏

قال‏:‏ والصحيح من نحو هذا الاشتقاق قول رؤبة‏:‏ في خدر مياس الدمى معرجن وأنشدناه ‏"‏ المعرجن ‏"‏ باللام‏.‏

فقوله ‏"‏ المعرجن ‏"‏ يشهد بكون النون من عرجون أصلاً وإن كان من معنى الانعراج ألا تراهم فسروا قول الله تعالى ‏"‏ حتى عاد كالعرجون القديم ‏"‏ فقالوا‏:‏ هي الكباسة إذا قدمت فانحنت فقد ‏"‏ كان على هذا القياس يجب ‏"‏ أن يكون نون ‏"‏ عرجون ‏"‏ زائدة كزيادتها في ‏"‏ زيتون ‏"‏ غير أن بيت رؤبة الذي يقول فيه ‏"‏ المعرجن ‏"‏ منع هذا وأعلمنا أنه أصل رباعي قريب من لفظ الثلاثي كسبطر من سبط ودمثر من دمث ألا ترى أنه ليس في الأفعال ‏"‏ فعلن ‏"‏ وإنما ذلك في الأسماء نحو علجن وخلبن‏.‏

ومما يدل على أن ما قيس على كلام العرب فإنه من كلامها أنك لو مررت على قوم ‏"‏ يتلاقون بينهم مسائل ‏"‏ أبنية التصريف نحو قولهم في مثال ‏"‏ صمحمح ‏"‏ من الضرب‏:‏ ‏"‏ ضربرب ‏"‏ ومن القتل ‏"‏ قتلتل ‏"‏ ومن الأكل ‏"‏ أكلكل ‏"‏ ومن الشرب ‏"‏ شربرب ‏"‏ ومن الخروج ‏"‏ خرجرج ‏"‏ ومن الدخول ‏"‏ دخلخل ‏"‏‏.‏

وفي مثل ‏"‏ سفرجل ‏"‏ من جعفر‏:‏ ‏"‏ جعفرر ‏"‏ ومن صقعب ‏"‏ صقعبب ‏"‏ ومن زبرج ‏"‏ زبرجج ‏"‏ ومن ثرتم ‏"‏ ثرتمم ‏"‏ ونحو ذلك‏.‏

فقال لك قائل‏:‏ بأي لغة كان هؤلاء يتكلمون لم تجد بداً من أن تقول‏:‏ بالعربية وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه الحروف‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما تصنع بما حدثكم به أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال‏:‏ حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال‏:‏ قرأت على الأصمعي هذه الأرجوزة للعجاج‏:‏ يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا فلما بلغت‏:‏ تقاعس العز بنا فاقعنسسا قال لي الأصمعي‏:‏ قال لي الخليل‏:‏ أنشدنا رجل‏:‏ ترافع العز بنا فارفنععا فقلت‏:‏ هذا لا يكون‏.‏

فقال‏:‏ كيف جاز للعجاج أن يقول‏:‏ فهذا يدل على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم ما كان من هذا النحو من الأبنية على أنه من كلامهم ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيد قومه وكاشف قناع القياس في علمه كيف منع من هذا ولو كان ما قاله أبو عثمان صحيحاً ومذهباً مرضياً لما أباه الخليل ولا منع منه‏!‏ فالجواب عن هذا من أوجه عدة‏:‏ أحدها - أن الأصمعي لم يحك عن الخليل أنه انقطع هنا ولا أنه تكلم بشيء بعده فقد يجوز أن يكون الخليل لما احتج عليه منشده ذلك البيت ببيت العجاج عرف الخليل حجته فترك مراجعته وقطع الحكاية على هذا الموضع يكاد يقطع بانقطاع الخليل عنده ولا ينكر أن يسبق الخليل إلى القول بشيء فيكون فيه تعقب له فينبه عليه فينتبه‏.‏

وقد يجوز أيضاً أن يكون الأصمعي سمع من الخليل في هذا من قبوله أورده على المحتج به ما لم يحكه للخليل بن أسد لا سيما والأصمعي ليس ممن ينشط للمقاييس ولا لحكاية التعليل‏.‏

نعم وقد يجوز أن يكون الخليل أيضاً أمسك عن شرح الحال في ذلك وما قاله لمنشده البيت من تصحيح قوله أو إفساده للأصمعي لمعرفته بقلة انبعاثه في النظر وتوفره على ما يروى ويحفظ‏.‏

وتؤكد هذا عندك الحكاية عنه وعن الأصمعي وقد كان أراده الأصمعي على أن يعلمه العروض فتعذر ذلك على الأصمعي وبعد عنه فيئس الخليل منه فقال له يوماً‏:‏ يا أبا سعيد كيف تقطع قول الشاعر‏:‏ قال‏:‏ فعلم الأصمعي أن الخليل قد تأذى ببعده عن علم العروض فلم يعاوده فيه‏.‏

ووجه غير هذا وهو ألطف من جميع ما جرى وأصنعه وأغمضه وذلك أن يكون الخليل إنما أنكر ذلك لأنه بناه ‏"‏ مما ‏"‏ لامه حرف حلقي والعرب لم تبن هذا المثال مما لامه أحد حروف الحلق إنما هو مما لامه حرف فموي وذلك نحو اقعنسس واسحنكك واكلندد واعفنجج‏.‏

فلما قال الرجل للخليل ‏"‏ فارفنععا ‏"‏ أنكر ذلك من حيث أرينا‏.‏

فإن قيل‏:‏ وليس ترك العرب أن تبني هذا المثال مما لامه حرف حلقي بمانع أحداً من بنائه من ذلك ألا ترى أنه ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع فإذا حذا إنسان على مثلهم وأم مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعاً ولا أن يرويه رواية‏.‏

قيل‏:‏ إذا تركت العرب أمراً من الأمور لعلة داعية إلى تركه وجب اتباعها عليه ولم يسع أحداً بعد ذلك العدول عنه‏.‏

وعلة امتناع ذلك عندي ما أذكره لتتأمله فتعجب منه وتأنق لحسن الصنعة فيه‏.‏

وذلك أن العرب زادت هذه النون الثالثة الساكنة في موضع حروف اللين أحق به وأكثر من النون فيه ألا ترى أنك إذا وجدت النون ثالثة ساكنة فيما عدته خمسة أحرف قطعت بزيادتها نحو نون جحنفل وعبنقس وجرنفس وفلنقس وعرندس عرفت الاشتقاق أو لم تعرفه حتى قال أصحابنا‏:‏ وإنما كان ذلك لأن هذا الموضع إنما هو للحروف الثلاثة الزوائد نحو واو فدوكس وسرومط وياء سميدع وعميثل وألف جرافس وعذافر‏.‏

والنون حرف من حروف الزيادة أغن ومضارع لحروف اللين وبينه وبينها من القرب والمشابهات ما قد شاع وذاع‏.‏

فألحقوا النون في ذلك بالحروف اللينة الزائدة‏.‏

وإذا كان كذلك فيجب أن تكون هذه النون - إذا وقعت ثالثة في هذه المواضع - قوية الشبه بحروف المد وإنما يقوى شبهها بها متى كانت ذات غنة لتضارع بها حروف المد للينها وإنما تكون فيها الغنة متى كانت من الأنف وإنما تكون من الأنف متى وقعت ساكنة وبعدها حرف فموي لا حلقي نحو جحنفل وبابه‏.‏

وكذلك أيضاً طريقها وحديثها في الفعل ألا ترى أن النون في باب احرنجم وادلنظى إنما هي محمولة من حيث كانت ثالثة ساكنة على الألف نحو اشهاببت وادهاممت وابياضضت واسواددت والواو في نحو اغدودن واعشوشب واخلولق واعروريت واذلوليت واقطوطيت واحلوليت‏.‏

وإذا كانت النون في باب احرنجم واقعنسس إنما هي أيضاً محمولة على الواو والألف في هذه الألفاظ التي ذكرناها وغيرها وجب أن تضارعها وهي أقوى شبهاً بها‏.‏

وإنما يقوى شبهها بها إذا كانت غناء وإنما تكون كذلك إذا وقعت قبل حروف الفم نحوها في اسحنكك واقعنسس واحرنجم واخرنطم‏.‏

وإذا كان كذلك لم يجز أن يقع بعدها حرف حلقي لأنها إذا كانت كذلك كانت من الفم وإذا كانت من الفم سقطت غنتها وإذا سقطت غنتها زال شبهها بحرفي المد‏:‏ الواو والألف‏.‏

فلذلك أنكره الخليل وقال‏:‏ هذا لا يكون‏.‏

وذلك أنه رأى نون ‏"‏ ارفنعع ‏"‏ في موضع لا تستعملها العرب فيه إلا غناء غير مبنية فأنكره وليست كذلك في اقعنسس لأنها قبل السين وهذا موضع تكون فيه مغنة مشابهة لحرفي اللين ولهذا ما كانت النون في ‏"‏ عجنس ‏"‏ و ‏"‏ هجنع ‏"‏ كباء ‏"‏ عدبس ‏"‏ ولامي ‏"‏ شلعلع ‏"‏ ولم يقطع على أن الأولى منهما الزائدة كما قطع على نون ‏"‏ جحنفل ‏"‏ بذلك من حيث كانت مدعمة وادغامها يخرجها من الألف لأنها تصير إلى لفظ المتحركة بعدها وهي من الفم‏.‏

وهذا أقوى ما يمكن أن يحتج به في هذا الموضع‏.‏

وعلى ما نحن عليه فلو قال لك قائل‏:‏ كيف تبني من ضرب مثل ‏"‏ حبنطىً ‏"‏ لقلت فيه‏:‏ ‏"‏ ضربنىً ‏"‏‏.‏

ولو قال‏:‏ كيف تبني مثله من قرأ لقلت‏:‏ هذا لا يجوز لأنه يلزمني أن أقول‏:‏ ‏"‏ قرنأى ‏"‏ فأبين النون لوقوعها قبل الهمزة وإذا بانت ذهبت عنها غنتها وإذا ذهبت غنتها زال شبهها بحروف اللين في نحو عثوثل وخفيدد وسرومط وفدوكس وزرارق وسلالم وعذافر وقراقر - على ما تقدم - ولا يجوز أن تذهب عنها الغنة في هذا الموضع الذي هي محمولة فيه على حروف اللين بما فيها من الغنة التي ضارعتها بها وكذلك جميع حروف الحلق‏.‏

فلا يجوز أيضاً أن تبنى من صرع ولا من جبه ولا من سنح ولا من سلخ ولا من فرغ لأنه كان يلزمك أن تقول‏:‏ صرنعى وجبنهى وسننحى وسلنخى وفرنغى فتبين النون في هذا الموضع‏.‏

وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره‏.‏

ولكن من أخفى النون عند الخاء والغين في نحو منخل ومنغل يجوز على مذهبه أن يبني نحو حبنطى من سلخ وفرغ لأنه قد يكون هناك في لغته من الغنة ما يكون مع حروف الفم‏.‏

وقلت مرة لأبي على - رحمه الله - قد حضرني شيء في علة الإتباع في ‏"‏ نقيذ ‏"‏ وإن عري أن تكون عينه حلقية وهو قرب القاف من الخاء والغين فكما جاء عنهم النخير والرغيف كذلك جاء عنهم ‏"‏ النقيذ ‏"‏ فجاز أن تشبه القاف لقربها من حروف الحلق بها كما شبه من أخفى النون عند الخاء والغين إياهما بحروف الفم فالنقيذ في الإتباع كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون فرضيه وتقبله‏.‏

ثم رأيته وقد أثبته فيما بعد بخطه في تذكرته ولم أر أحداً من أصحابنا ذكر ‏"‏ امتناع فعنلى ‏"‏ وبابه فيما لامه حرف حلقي لما يعقب ذلك من ظهور النون وزوال شبهها بحروف اللين والقياس يوجبه فلنكن عليه‏.‏

ويؤكده عنك أنك لا تجد شيئاً من باب فعنلى ولا فعنلل ولا فعنعل بعد نونه حرف حلقي‏.‏

وقد يجوز أن يكون إنكار الخليل قوله ‏"‏ فارفنععا ‏"‏ إنما هو لتكرر الحرف الحلقي مع استنكارهم ذلك‏.‏

ألا ترى إلى قلة التضعيف في باب المهه والرخخ والبعاع والبحح والضغيغة والرغيغة هذا مع ما قدمناه من ظهور النون في هذا الموضع‏.‏

ومن ذلك قول أصحابنا‏:‏ إن اسم المكان والمصدر على وزن المفعول في الرباعي قليل إلا أن تقيسه‏.‏

وذلك نحو المدحرج تقول‏:‏ دحرجته مدحرجاً وهذا مدحرجنا وقلقلته مقلقلاً وهذا مقلقلنا وكذلك أكرمته مكرماً وهذا مكرمك أي موضع إكرامك وعليه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ أي تمزيق وهذا ممزق الثياب أي الموضع الذي تمزق فيه‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ قرأت على الأصمعي في جيمية العجاج‏:‏ جأباً ترى بليته مسحجاً فقال‏:‏ تليله فقلت‏:‏ بليته فقال‏:‏ هذا لا يكون فقلت‏:‏ أخبرني به من سمعه من فِلق في رؤبة أعني أبا زيد الأنصاري فقال‏:‏ هذا لا يكون فقلت‏:‏ جعله مصدراً أي تسحيجاً فقال‏:‏ هذا لا يكون فقلت‏:‏ فقد قال جرير‏:‏ ألم تعلم مسرحي القوافي فلا عياً بهن ولا اجتلابا أي تسريحي‏.‏

فكأنه أراد أن يدفعه فقلت له‏:‏ فقد قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ فأمسك‏.‏

وتقول على ما مضى‏:‏ تألفته متألفاً وهذا متألفنا وتدهورت متدهوراً وهذا متدهورك وتقاضيتك متقاضىً وهذا متقاضانا‏.‏

وتقول‏:‏ اخروَّط مخروَّطاً وهذا مخروَّطنا واغدودن مغدودنا وهذا مغدودننا وتقول‏:‏ اذلوليت مذلولىً وهذا مذلولانا ومذلولاكن يا نسوة وتقول‏:‏ اكوهدَّ مكوهداً وهذا مكوهدكما‏.‏

فهذا كله من كلام العرب ولم يسمع منهم ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه قياسه ألا ترى إلى قوله‏:‏ أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا غم الجبان من الكرب وقوله‏:‏ أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس وقوله‏:‏ كأن صوت الصنج في مصلصله فقوله ‏"‏ مصلصله ‏"‏ يجوز أن يكون مصدراً أي في صلصلته ويجوز أن يكون موضعاً للصلصله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

حتى لا أرى لي مقاتلا فمصدر ويبعد أن يكون موضعاً أي حتى لا أرى لي موضعاً للقتال‏:‏ المصدر هنا أقوى تراد على دمن الحياض فإن تعف فإن المندَّى رحلة فركوب أي مكان تنديتنا إياها أن نرحلها فنركبها‏.‏

وهذا كقوله‏:‏ تحية بينهم ضرب وجيع أي ليست هناك تحية بل مكان التحية ضرب‏.‏

فهذا كقول الله سبحانه ‏{‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

وقال رؤبة‏:‏ جدب المندى شئِز المُعَوَّهِ فهذا اسم لموضع التندية أي جدب هذا المكان‏.‏

وكذلك ‏"‏ المعوه ‏"‏ مكان أيضاً والقول فيهما واحد‏.‏

وهذا باب مطرد متقاود‏.‏

وقد كنت ذكرت طرفاً منه في كتابي ‏"‏ شرح تصريف أبي عثمان ‏"‏ غير أن الطريق ما ذكرت لك‏.‏

فكل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم‏.‏

ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة‏:‏ إنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما‏.‏

وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات ويأمر بإلقائها على ابن أبي إسحاق‏.‏

وحكى الكسائي أنه سأل بعض العرب عن أحد مطايب الجزور فقال‏:‏ مطيب وضحك الأعرابي من نفسه كيف تكلف لهم ذلك من كلامه‏.‏

فهذا ضرب من القياس ركبه الأعرابي وذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها فإذا رأى الاشتقاق قابلاً لها أنس بها وزال استيحاشه منها‏.‏

فهل هذا إلا اعتماد في تثبيت اللغة على القياس‏.‏

ومع هذا أنك لو سمعت ظرف ولم تسمع يظرف هل كنت تتوقف عن أن تقول يظرف راكباً له غير مستحيٍ منه‏.‏

وكذلك لو سمعت سلم ولم تسمع مضارعه أكنت ترع أو ترتدع أن تقول يسلم قياساً أقوى من كثير من سماع غيره‏.‏

ونظائر ذلك فاشية كثيرة‏.‏

  باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا

من ذلك قول لبيد‏:‏ سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال وقال‏:‏ أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها وقال‏:‏ فظلت لدى البيت العتيق أُخيلُهو ومطواي مشتاقان لهْ أرقان فهاتان لغتان‏:‏ أعني إثبات الواو في ‏"‏ أخيلهو ‏"‏ وتسكين الهاء في قوله ‏"‏ له ‏"‏ لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة وإذا كان كذلك فهما لغتان‏.‏

وليس إسكان الهاء في ‏"‏ له ‏"‏ عن حذف لحق بالصنعة الكلمة لكن ذاك لغة‏.‏

ومثله ما رويناه عن قطرب‏:‏ وأشرب الماء ما بي نحوهو عطش إلا لأن عيونهْ سيل واديها وأما قول الشماخ‏:‏ له زجل كأنه صوت حا إذا طلب الوسيقة أو زمير فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة قبلها لغة فينبغي أن يكون ذلك ضرورة ‏"‏ وصنعة ‏"‏ لا مذهباً ولغة‏.‏

وكذلك يجب عندي وينبغي ألا يكون لغة لضعفه في القياس‏.‏

ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل ولا مذهب الوقف‏.‏

أما الوصل فيوجب إثبات واوه كلقيتهو أمس‏.‏

وأما الوقف فيوجب الإسكان كلقيته وكلمته فيجب أن يكون ذلك ضرورة للوزن لا لغة‏.‏

وأنشدني الشجري لنفسه‏:‏ وإنا ليرعى في المخوف سوامنا كأنه لم يشعر به من يحاربه فاختلس ما بعد هاء ‏"‏ كأنه ‏"‏ ومطل ما بعد هاء ‏"‏ بِهىِ ‏"‏ واختلاس ذلك ضرورة وصنعة على ما تقدم به القول‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ بغداد وبغدان‏.‏

وقالوا أيضاً‏:‏ مغدان وطبرزل وطبرزن‏.‏

وقالوا للحية‏:‏ أيم وأين‏.‏

وأعصر ويعصر‏:‏ أبو باهلة‏.‏

والطِنفِسة والطُنفُسة‏.‏

وما اجتمعت فيه لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به‏.‏

فإذا ورد شيء من ذلك - كأن يجتمع في لغة رجل واحد لغتان فصيحتان - فينبغي أن تتأمل حال كلامه فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال كثرتهما واحدة فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللفظين لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها‏.‏

وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها عهده وكثر استعماله لها فلحقت - لطول المدة واتصال استعمالها - بلغته الأولى‏.‏

وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة والكثيرته هي الأولى الأصلية‏.‏

نعم وقد يمكن في هذا أيضاً أن تكون القلي منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه وإن كانتا جميعاً لغتين له ولقبيلته‏.‏

وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه ألا ترى إلى حكاية أبي العباس عن عمارة قراءته ‏{‏وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ‏}‏ بنصب النهار وأن أبا العباس قال له‏:‏ ما أردت فقال‏:‏ أردت ‏"‏ سابقٌ النهار ‏"‏ قال أبو العباس فقلت له‏:‏ فهلا قلته فقال‏:‏ لو قلته لكان أوزن أي أقوى‏.‏

فهذا يدلك على أنهم قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه وذلك لاستخفافهم الأضعف إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة إذ لولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة‏.‏

وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفاً منها من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله‏.‏

هذا غالب الأمر وإن كان الآخر في وجه من القياس جائزاً‏.‏

وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد نحو قولهم‏:‏ هي رَغوة اللبن ورُغوته ورِغوته ورُغاوته ورِغاوته ورُغايته‏.‏

وكقولهم‏:‏ الذَرُوح والذُرُّوح والذِّرِّيح والذُرَّاح والذُرَّح والذُرنوح والذُرحرح والذُرَّحرح روينا ذلك كله‏.‏

وكقولهم‏:‏ جئته من علُ ومن عِل ومن علا ومن عَلوُ ومن عَلوَ ومن عَلو ومن عُلُوّ ومن عال ومن معال‏.‏

فإذا أرادوا النكرة قالوا‏:‏ من علٍ‏.‏

وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة‏.‏

وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هَنَّا ومن هَنَّا‏.‏

ورويت عن الأصمعي قال‏:‏ اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما‏:‏ الصقر ‏"‏ بالصاد ‏"‏ وقال الآخر‏:‏ السقر ‏"‏ بالسين ‏"‏ فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه‏.‏

فقال‏:‏ لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر‏.‏

أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها‏.‏

وهكذا تتداخل اللغات‏.‏

وسنفرد لذلك باباً بإذن فقد وضح ما أوردنا بيانه من حال اجتماع الللغتين أو اللغات في كلام الواحد من العرب‏.‏

  باب في تركب اللغات

اعلم أن هذا موضع قد دعا أقواماً ضعف نظرهم وخفت إلى تلقي ظاهر هذه اللغة أفهامهم أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم وادعوا أنها موضوعة في أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها وأنسوا ما كان ينبغي أن يذكروه وأضاعوا ما كان واجباً أن يحفظوه‏.‏

ألا تراهم كيف ذكروا في الشذوذ ما جاء على فعل يفعل نعم ينعم ودمت تدوم ومت تموت‏.‏

وقالوا أيضاً فيما جاء من فعل يفعل وليس عينه ولا لامه حرفاً حلقياً نحو قلى يقلى وسلا يسلى وجبى يجبى وركن يركن وقنط يقنط‏.‏

ومما عدوه شاذاً ما ذكروه من فعل فهو فاعل نحو طهر فهو طاهر وشعر فهو شاعر وحمض فهو حامض وعقرت المرأة فهي عاقر ولذلك نظائر كثيرة‏.‏

واعلم أن أكثر ذلك وعامته إنما هو لغات تداخلت فتركبت على ما قدمناه في الباب الذي هذا الباب يليه‏.‏

هكذا ينبغي أن يعتقد وهو أشبه بحكمة العرب‏.‏

وذلك أنه قد دلت الدلالة على وجوب مخالفة صيغة الماضي لصيغة المضارع إذ الغرض في صيغ هذه المثل إنما هو لإفادة الأزمنة فجعل لكل زمان مثال مخالف لصاحبه وكلما ازداد الخلاف كانت في ذلك قوة الدلالة على الزمان‏.‏

فمن ذلك أن جعلوا بإزاء حركة فاء الماضي سكون فاء المضارع وخالفوا بين عينيهما فقالوا‏:‏ ضرب يضرب وقتل يقتل وعلم يعلم‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قالوا‏:‏ دحرج يدحرج فحركوا فاء المضارع والماضي جميعاً وسكنوا عينيهما أيضاً قيل‏:‏ لما فعلوا ذلك في الثلاثي الذي هو أكثر استعمالاً وأعم تصرفاً وهو كالأصل للرباعي لم يبالوا ما فوق ذلك مما جاوز الثلاثة‏.‏

وكذلك أيضاً قالوا‏:‏ تقطع يتقطع وتقاعس يتقاعس وتدهور يتدهور ونحو ذلك لأنهم أحكموا الأصل الأول الذي هو الثلاثي‏.‏

فقل حفلهم بما وراءه كما أنهم لما أحكموا أمر المذكر في التثنية فصاغوها على ألفها لم يحفلوا بما عرض في المؤنث من اعتراض علم التأنيث بين الاسم وبين ما هو مصوغ عليه من علمها نحو قائمتان وقاعدتان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد نجد في الثلاثي ما تكون حركة عينيه في الماضي والمضارع سواء وهو باب فعل نحو كرم يكرم وظرف يظرف‏.‏

قيل‏:‏ على كل حال فاؤه في المضارع ساكنة وأما موافقة حركة عينيه فلأنه ضرب قائم في الثلاثي برأسه ألا تراه غير متعد البتة وأكثر باب فعَل وفعِل متعد‏.‏

فلما جاء هذا مخالفاً لهما - وهما أقوى وأكثر منه - خولف بينهما وبينه فووفق بين حركتي عينيه وخولف بين حركتي عينيهما‏.‏

وإذا ثبت وجوب خلاف صيغة الماضي صيغة المضارع وجب أن يكون ما جاء من نحو سلا يسلى وقلى يقلى ونحو ذلك مما التقت فيه حركتا عينيه منظوراً في أمره ومحكوماً عليه بواجبه‏.‏

فنقول‏:‏ إنهم قد قالوا‏:‏ قليت الرجل وقليته‏.‏

فمن قال‏:‏ قلَيته فإنه يقول أقليه ومن قال قلِيته قال‏:‏ أقلاه‏.‏

وكذلك من قال‏:‏ سلوته قال‏:‏ أسلوه ومن قال سليته قال‏:‏ أسلاه ثم تلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا وهذا لغة هذا فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة كأن من يقول سلا أخذ مضارع من يقول سلى فصار في لغته سلا يسلى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكان يجب على هذا أن يأخذ من يقول سلِى مضارع من يقول سلا فيجيء من هذا أن يقال‏:‏ سلى يسلو‏.‏

قيل‏:‏ منع من ذلك أن الفعل إذا أزيل ماضيه عن أصله سرى ذلك في مضارعه وإذا اعتل مضارعه سرى ذلك في ماضيه إذ كانت هذه المثل تجري عندهم مجرى المثال الواحد ألا تراهم لما أعلوا ‏"‏ شقي ‏"‏ أعلوا أيضاً مضارعه فقالوا يشقيان‏:‏ ولما أعلوا ‏"‏ يغزي ‏"‏ أعلوا أيضاً أغزيت ولما أعلوا ‏"‏ قام ‏"‏ أعلوا أيضاً يقوم‏.‏

فلذلك لم يقولوا‏:‏ سليت تسلو فيعلوا الماضي ويصححوا المضارع‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قالوا‏:‏ محوت تمحى وبأوت تبأى وسعيت تسعى ونأيت تنأى فصححوا الماضي وأعلوا المستقبل‏.‏

قيل‏:‏ إعلال الحرفين إلى الألف لا يخرجهما كل الإخراج عن أصلهما ألا ترى أن الألف حرف ينصرف إليه عن الياء والواو جميعاً فليس للألف خصوص بأحد حرفي العلة فإذا قلب واحد منهما إليه فكأنه مقر على بابه ألا ترى أن الألف لا تكون أصلاً في الأسماء ولا الأفعال وإنما هي مؤذنة بما هي بدل منه وكأنها هي هو وليست كذلك الواو والياء لأن كل واحدة منهما قد تكون أصلاً كما تكون بدلاً‏.‏

فإذا أخرجت الواو إلى الياء اعتد بذلك لأنك أخرجتها إلى صورة تكون الأصول عليها والألف لا تكون أصلاً أبداً فيهما فكأنها هي ما قلبت عنه البتة فاعرف ذلك فإن أحداً من أصحابنا لم يذكره‏.‏

ومما يدلك على صحة الحال في ذلك أنهم قالوا‏:‏ غزا يغزو ورمى يرمي فأعلوا الماضي بالقلب ولم يقلبوا المضارع لما كان اعتلال لام الماضي إنما هو بقلبها ألفاً والألف لدلالتها على ما قلبت ويدلك على استنكارهم أن يقولوا‏:‏ سليت تسلو لئلا يقلبوا في الماضي ولا يقلبوا في المضارع أنهم قد جاءوا في الصحيح بذلك لما لم يكن فيه من قلب الحرف في الماضي وترك قلبه في المضارع ما جفا عليهم وهو قولهم‏:‏ نعِم ينعُم وفضِل يفضُل‏.‏

وقالوا في المعتل‏:‏ مِت تموت ودِمت تدوم وحكي في الصحيح أيضاً حضِر القاضي يحضُره‏.‏

فنعِم في الأصل ينعَم وينعم في الأصل مضارع نعُم ثم تداخلت اللغتان فاستضاف من يقول نعِم لغة من يقول ينعُم فحدثت هناك لغة ثالثة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكان يجب على هذا أن يستضيف من يقول‏:‏ نعُم مضارع من يقول نعِم فتركب من هذا أيضاً لغة ثالثة وهي نعُم ينعَم‏.‏

قيل‏:‏ منع من هذا أن فعُل لا يختلف مضارعه أبداً وليس كذلك نعِم لأن نعِم قد يأتي فيه ينعِم وينعَم جميعاً فاحتمل خلاف مضارعه وفعُل لا يحتمل مضارعه الخلاف ألا تراك كيف تحذف فاء وعد في يعد لوقوعها بين ياء وكسرة وأنت مع ذلك تصحح نحو وضؤ ووطؤ إذا قلت‏:‏ يوضؤ ويوطؤ وإن وقعت الواو بين ياء وضمة ومعلوم أن الضمة أثقل من الكسرة لكنه لما كان مضارع فعُل لا يجيء مختلفاً لم يحذفوا فاء وضؤ ولا وطؤ ولا وضع لئلا يختلف باب ليس من عادته أن يجيء مختلفاً‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما بالهم كسروا عين ينعِم وليس في ماضيه إلا نعِم ونعُم وكل واحد من فعِل وفعُل ليس له حظ من باب يفعِل‏.‏

قيل‏:‏ هذا طريقه غير طريق ما قبله‏.‏

فإما أن يكون ينعم - بكسر العين - جاء على ماض وزنه فعَل غير أنهم لم ينطقوا به استغناء عنه بنعِم ونعُم كما استغنوا بتَرك عن وَذر وودع وكما استغنوا بملامح عن تكسير لمحة وغير ذلك‏.‏

أو يكون فعِل في هذا داخلاً على فعُل فكما أن فعُل بابه يفعل كذلك شبهوا بعض فعِل به فكسروا عين مضارعه كما ضموا في ظرف عين ماضيه ومضارعه‏.‏

فنعِم ينعِم في هذا محمول على كرم يكرم كما دخل يفعل فيما ماضيه فعَل نحو قتل يقتل على باب يشرف ويظرف‏.‏

وكأن باب يفعل إنما هو لما ماضيه فعُل ثم دخلت يفعُل في فعَل على يفعِل لأن ضرب يضرب أقيس من قتل يقتل‏.‏

ألا ترى أن ما ماضيه فعِل إنما بابه فتح عين مضارعه نحو ركب يركب وشرب يشرب‏.‏

فكما فتح المضارع لكسر الماضي فكذلك أيضاً ينبغي أن يكسر المضارع لفتح الماضي‏.‏

وإنما دخلت يفعُل في باب فعَل على يفعِل من حيث كانت كل واحدة من الضمة والكسرة مخالفة للفتحة ولما آثروا خلاف حركة عين المضارع لحركة عين الماضي ووجدوا الضمة مخالفة للفتحة خلاف الكسرة لها عدلوا في بعض ذاك إليها فقالوا‏:‏ قتل يقتل ودخل يدخل وخرج يخرج‏.‏

وأنا أرى أن يفعل فيما ماضيه فَعَل في غير المتعدي أقيس من يفعِل فضرب يضرب إذاً أقيس من قتل يقتل وقعد يقعد أقيس من جلس يجلس‏.‏

وذلك أن يفعل إنما هي في الأصل لما لا يتعدى نحو كرم يكرم على ما شرحنا من حالها‏.‏

فإذا كان كذلك كان أن يكون في غير المتعدي فيما ماضيه فعَل أولى وأقيس‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف ذلك ونحن نعلم أن يفعُل في المضاعف المتعدي أكثر من يفعِل نحو شده يُشدُّه ومده يمده وقده يقده وجزه يجزه وعزه يعزه وأزه يؤزه وعمه يعمه وأمه يؤمه وضمه يضمه وحله يحله وسله يسله وتله يتله‏.‏

ويفعِل في المضاعف قليل محفوظ هره يهِره وعله يعِله وأحرف قليلة‏.‏

وجميعها يجوز فيه ‏"‏ أفعُله ‏"‏ نحو عله يعله وهره يهره إلا حبه يحبه فإنه مكسور المضارع لا غير‏.‏

قيل‏:‏ إنما جاز هذا في المضاعف لاعتلاله والمعتل كثيراً ما يأتي مخالفاً للصحيح نحو سيد وميت وقضاة وغزاة ودام ديمومة وسار سيرورة‏.‏

فهذا شيء عرض قلنا فيه ولنعد‏.‏

وكذلك حال قولهم قنط يقنط إنما هو لغتان تداخلتا‏.‏

وذلك أن قنَط يقنِط لغة وقنِط يقنَط أخرى ثم تداخلتا فتركبت لغة ثالثة‏.‏

فقال من قال قنَط‏:‏ يقنَط ولم يقولوا‏:‏ قنِط يقنِط لأن آخذاً إلى لغته لغة غيره قد يجوز أن يقتصر على بعض اللغة التي أضافها إلى لغته دون بعض‏.‏

وأما حسب يحسب ويئس ييئس ويبس ييبس فمشبه بباب كرم يكرم على ما قلنا في نعِم ينعِم‏.‏

وكذلك مِت تموت ودِمت تدوم وإنما تدوم وتموت على من قال مُت ودُمت وأما مِت ودِمت فمضارعهما تمات وتدام قال‏:‏ يا ميّ لاغرو ولا ملاما في الحب إن الحب لن يداما وقال‏:‏ بنيَّ يا سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتي ثم تلاقى صاحبا اللغتين فاستضاف هذا بعض لغة هذا وهذا بعض لغة هذا فتركبت لغة ثالثة‏.‏

قال الكسائي‏:‏ سمعت من أخوين من بني سليم‏:‏ نما ينمو ثم سألت بني سليم عنه فلم يعرفوه‏.‏

وأنشد أبو زيد لرجل من بني عقيل‏:‏ ألم تعلمي ما ظلت بالقوم واقفا على طلل أضحت معارفه قفرا فكسروا الظاء في إنشادهم وليس من لغتهم‏.‏

وكذلك القول فيمن قال‏:‏ شعر فهو شاعر وحمض فهو حامض وخثر فهو خاثر‏:‏ إنما هي على نحو من هذا‏.‏

وذلك أنه يقال‏:‏ خَثُر وخَثَر وحمُض وحمَض وشعُر وشعَر وطهُر وطهَر فجاء شاعر وحامض وخاثر وطاهر على حمَض وشعَر وخثَر وطهَر ثم استغني بفاعل عن ‏"‏ فعيل ‏"‏ وهو في أنفسهم وعلى بال من تصورهم‏.‏

يدل على ذلك تكسيرهم لشاعر‏:‏ شعراء لما كان فاعل هنا واقعاً موقع ‏"‏ فعيل ‏"‏ كسر تكسيره ليكون ذلك أمارة ودليلاً على إرادته وأنه مغن عنه وبدل منه كما صحح العواور ليكون دليلاً على إرادة الياء في العواوير ونحو ذلك‏.‏

وعلى ذلك قالوا‏:‏ عالم وعلماء - قال سيبويه‏:‏ يقولها من لا يقول عليم - لكنه لما كان العلم إنما يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة ولم يكن على أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان متعلماً لا عالماً فلما خرج بالغريزة إلى باب فعُل صار عالم في المعنى كعليم فكسر تكسيره ثم حملوا عليه ضده فقالوا‏:‏ جهلاء كعلماء وصار علماء كحلماء لأنه العلم محلمة لصاحبه وعلى ذلك جاء عنهم فاحش وفحشاء لما كان الفحش ضرباً من ضروب الجهل ونقيضاً للحلم أنشد الأصمعي - فيما روينا عنه -‏:‏ وهل علمت فحشاء جهله وأما غسا يغسى وجبى يجبى فإنه كأبى يأبى‏.‏

وذلك أنهم شبهوا الألف في آخره بالهمزة في قرأ يقرأ وهدأ يهدأ‏.‏

وقد قالوا غسى يغسى فقد يجوز أن يكون غسا يغسى من التركيب الذي تقدم ذكره‏.‏

وقالوا أيضاً جبى يجبى وقد أنشد أبو زيد‏:‏ يا إبلي ماذا مه فتأبيَه فجاء به على وجه القياس كأتى يأتي‏.‏

كذا رويناه عنه وقد تقدم ذكره وأنني قد شرحت حال هذا الرجز في كتابي ‏"‏ في النوادر الممتعة ‏"‏‏.‏

واعلم أن العرب تختلف أحوالها في تلقي الواحد منها لغة غيره فمنهم من يخف ويسرع قبول ما يسمعه ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة ومنهم من إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به ووجدت في كلامه ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قيل‏:‏ يا نبيء الله فقال‏:‏ ‏(‏ لست بنبيء الله ولكنني نبيّ الله ‏)‏ وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه فرده على قائله لأنه لم يدر بم سماه فأشفق أن يمسك على ذلك وفيه شيء يتعلق بالشرع فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور أو حاظر مباح‏.‏

وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحي قال‏:‏ اجتمع أبو عبد الله ابن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد فسأل أبو زياد أبا عبد الله عن قول النابغة الذبياني‏:‏ على ظهر مبناةٍ‏.‏

‏.‏

‏.‏

فقال أبو عبد الله‏:‏ النَّطع فقال أبو زياد‏:‏ لا أعرفه فقال‏:‏ النِطع فقال أبو زياد‏:‏ نعم أفلا ترى كيف أنكر غير لغته على قرب بينهما‏.‏

وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبي بكر محمد بن هرون الروياني عن أبي حاتم قال‏:‏ قرأ علي أعرابي بالحرم‏:‏ ‏"‏ طيبى لهم وحسن مآب ‏"‏ فقلت‏:‏ طوبى فقال طيبى قلت طوبى قال طيبى‏.‏

فلما طال علي الوقت قلت‏:‏ طوطو فقال طي طي‏.‏

أفلا ترى إلى استعصام هذا الأعرابي بلغته وتركه متابعة أبي حاتم‏.‏

والخبر المرفوع في ذلك وهو سؤال أبي عمرو أبا خيرة عن قولهم‏:‏ استأصل الله عرقاتهم فنصب أبو خيرة التاء من ‏"‏ عِرقاتهم ‏"‏ فقال له أبو عمرو‏:‏ هيهات أبا خيرة لان جلدك‏.‏

وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب بعد ما كان سمعها منه بالجر قال‏:‏ ثم رواها فيما بعد أبو عمرو بالنصب والجر فإما أن يكون سمع النصب من غير أبي خيرة ممن يرضى عربيته وإما أن يكون قوي في نفسه ما سمعه من أبي خيرة من نصبها‏.‏

ويجوز أيضاً أن يكون قد أقام الضعف في نفسه فحكى النصب على اعتقاده ضعفه وذلك أن الأعرابي قد ينطق بالكلمة يعتقد أن غيرها أقوى في نفسه منها ألا ترى أن أبا العباس حكى عن عمارة أنه كان يقرأ ‏{‏ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ‏}‏ بالنصب قال أبو العباس‏:‏ فقلت له ما أردت فقال‏:‏ سابقٌ النهارَ فقلت له فهلا قلته فقال‏:‏ لو قلته لكان أوزن أي أقوى‏.‏

وقد ذكرنا هذه الحكاية للحاجة إليها في موضع آخر ولا تستنكر إعادة الحكاية فربما كان في الواحدة عدة أماكن مختلفة يحتاج فيها إليها‏.‏

فأما قولهم‏:‏ عقرت فهي عاقر فليس ‏"‏ عاقر ‏"‏ عندنا بجار على الفعل جريان قائم وقاعد عليه وكذلك قولهم‏:‏ طلقت فهي طالق فليس عاقر من عقرت بمنزلة حامض من حمض ولا خاثر من خثر ولا طاهر من طهر ولا شاعر من شعر لأن كل واحد من هذه هو اسم الفاعل وهو جار على فَعَل ‏"‏ فاستغني به عما يجري على فعُل وهو ‏"‏ فعيل على ما قدمناه‏.‏

وسألت أبا علي - رحمه الله - فقلت‏:‏ قولهم حائض بالهمزة يحكم بأنه جار على حاضت لاعتلال عين فعلت‏.‏

فقال‏:‏ هذا لا يدل‏.‏

وذلك أن صورة فاعل مما عينه معتلة لا يجيء إلا مهموزاً جرى على الفعل أو لم يجر لأن بابه أن يجري عليه فحملوا ما ليس جارياً عليه على حكم الجاري عليه لغلبته إياه فيه‏.‏

وقد ذكرت هذا فيما مضى‏.‏

فاعرف ما رسمت لك واحمل - ما يجيء منه عليه - فإنه كثير وهذا طريق قياسه‏.‏